وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَرَضِيَ السَّيِّدُ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ لِلْأَمْرِ فِي هَذَا عَنِ الْوُجُوبِ الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ فَإِنَّهُ وَكَلَ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَوْلَى، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا رَأَى عَدَمَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْكِتَابَةُ عَقْدُ غَرَرٍ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا تَجُوزَ، فَلَمَّا وَقَعَ الْإِذْنُ فِيهَا كَانَ أَمْرًا بَعْدَ مَنْعٍ وَالْأَمْرُ بَعْدَ الْمَنْعِ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا كَوْنُهَا مُسْتَحَبَّةً لِأَنَّ اسْتِحْبَابَهَا ثَبَتَ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ قِصَّةَ بَرِيرَةَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْكِتَابَةِ، فَأَوْرَدَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ طَرِيقَ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ اللَّيْثِ لَهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَفْسِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ يُونُسُ، وَاللَّيْثُ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ أَنَّ يُونُسَ رَفِيقُ اللَّيْثِ فِيهِ لَا شَيْخُهُ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ اللَّيْثِ لَهُ مِنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ كِلَاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ أَيْضًا مُخَالَفَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ نَظَرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَعَلَيْهَا خَمْسُ أَوَاقي نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ وَالْمَشْهُورُ مَا فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهَا كَاتَبَتْ عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةً وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُعَلَّقَةَ غَلَطٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ التِّسْعَ أَصْلٌ وَالْخَمْسَ كَانَتْ بَقِيَتْ عَلَيْهَا، وَبِهَذَا جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ وَلَمْ تَكُنْ أَدَّتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، وَيُجَابُ بِأَنَّهَا كَانَتْ حَصَّلَتِ الْأَرْبَعَ أَوَاقٍ قَبْلَ أَنْ تَسْتَعِينَ عَائِشَةَ، ثُمَّ جَاءَتْهَا وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهَا خَمْسٌ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُجَابُ بِأَنَّ الْخَمْسَ هِيَ الَّتِي كَانَتِ اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهَا بِحُلُولِ نُجُومِهَا مِنْ جُمْلَةِ التِّسْعِ الْأَوَاقِي الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ هِشَامٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْمَاضِيَةِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فَقَالَ أَهْلُهَا: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتِ مَا يَبْقَى وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي الْأَصْلِ الْمَسْمُوعِ عَلَى الْفَرَبْرِيِّ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّهَا كَاتَبَتْ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ وَقَالَ: إِنْ كَانَ مَضْبُوطًا فَهُوَ يَدْفَعُ سَائِرَ الْأَخْبَارِ.
قُلْتُ: لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا إِلَّا الْأَوَاقِي، وَكَذَا فِي نُسْخَةِ النَّسَفِيِّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَ يُمْكِنُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ أَنْ يَجْمَعَ بِأَنَّ قِيمَةَ الْأَوْسَاقِ الْخَمْسَةِ تِسْعُ أَوَاقٍ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي خَمْسِ سِنِينَ فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى الْجَمْعِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَنَفِسَتْ فِيهَا هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ رَغِبَتْ.
٢ - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ، وَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ
٢٥٦١ - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ ﵂ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا: إِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute