(تَنْبِيهٌ): زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْبُخَارِيِّ، وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْعُمْدَةِ، وَلَمْ يُنَبِّهْ أَحَدٌ مِنْ شُرَّاحِهَا عَلَيْهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَوْلِهِ: وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى ضِدِّهِ دَلَالَةُ الْتِزَامٍ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الْخِلَافُ، فَلَعَلَّهُ ذُكِرَ لِكَوْنِهِ أَصْرَحَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا اللَّفْظُ أَحَدُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّسْخِ، وَهُوَ تَقَدُّمُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَلَيْسَ كَقَوْلِ الرَّاوِي: هَذَا مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ يَطْرُقُهُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَسْخٌ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْحُكْمُ الْمُزِيلُ لَهَا لَيْسَ نَسْخًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مَما يُمْنَعُ أَوْ يُبَاحُ إِذَا قَرَّرَهُ الشَّارِعُ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَإِذَا وَرَدَ مَا يُخَالِفُهُ كَانَ نَاسِخًا، وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَوْلُهُ: وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَمَّى كَلَامًا، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ الرَّاجِح إِلَى قَوْلِهِ: يُكَلِّمُ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ، وَقَوْلِهِ: فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ؛ أَيْ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ.
(تَكْمِيلٌ): أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ - مِنْ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ عَامِدٍ لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا، أَوْ إِنْقَاذِ مُسْلِمٍ - مُبْطِلٌ لَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّاهِي وَالْجَاهِلِ، فَلَا يُبْطِلُهَا الْقَلِيلُ مِنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَبْطَلَهَا الْحَنَفِيَّةُ مُطْلَقًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي السَّهْوِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ أَيْضًا، كَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ أَوْ تَعَمَّدَ إِصْلَاحَ الصَّلَاةِ لِسَهْوٍ دَخَلَ عَلَى إِمَامِهِ، أَوْ لِإِنْقَاذِ مُسْلِمٍ لِئَلَّا يَقَعَ فِي مَهْلَكَةٍ، أَوْ فَتْحٍ عَلَى إِمَامِهِ، أَوْ سَبَّحَ لِمَنْ مَرَّ بِهِ، أَوْ رَدَّ السَّلَامَ، أَوْ أَجَابَ دَعْوَةَ أَحَدِ وَالِدَيْهِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكَلَامِ، أَوْ تَقَرَّبَ بِقُرْبَةٍ كَأَعْتَقْتُ عَبْدِي لِلَّهِ، فَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ خِلَافٌ مَحَلُّ بَسْطِهِ كُتُبُ الْفِقْهِ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهِ حَيْثُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِ الْفِعْلِ لِلْعَامِدِ فَلَا يُبْطِلُ، وَبَيْنَ قَلِيلِ الْكَلَامِ أَنَّ الْفِعْلَ لَا تَخْلُو مِنْهُ الصَّلَاةُ غَالِبًا لِمَصْلَحَتِهَا، وَتَخْلُو مِنَ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ غَالِبًا مُطَّرِدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٣ - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ لِلرِّجَالِ
١٢٠١ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ ﵁، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ وَحَانَتْ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ بِلَالٌ، أَبَا بَكْرٍ ﵄ فَقَالَ: حُبِسَ النَّبِيُّ ﷺ فَتَؤُمُّ النَّاسَ، قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ، فَأَقَامَ بِلَالٌ الصَّلَاةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ ﵁ فَصَلَّى، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ، قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ هُوَ التَّصْفِيقُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ﵁ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّفِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ ﷺ فَصَلَّى.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَرَادَ إِلْحَاقَ التَّسْبِيحِ بِالْحَمْدِ بِجَامِعِ الذِّكْرِ لِأَنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ ذِكْرُ التَّحْمِيدِ دُونَ التَّسْبِيحِ. قُلْتُ: بَلِ الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمَا، لَكِنَّهُ سَاقَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ مِنْ أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ وَفِيهِ: فَرَفَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute