قَوْلُهُ: (يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: نَتَكَلَّمُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِكُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْحَاجَةِ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ وَنَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى نَزَلَتْ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَسْخَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، فَيُشْكِلُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، وَكَانَ رُجُوعُهُمْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسْلَمُوا، فَرَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ، فَوَجَدُوا الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَاشْتَدَّ الْأَذَى عَلَيْهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا أَيْضًا، فَكَانُوا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَضْعَافَ الْأُولَى، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ، وَاخْتُلِفَ فِي مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَجَعْنَا، هَلْ أَرَادَ الرُّجُوعَ الْأَوَّلَ أَوِ الثَّانِي، فَجَنَحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَالُوا: كَانَ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ زَيْدٍ عَلَى أَنَّهُ وَقَوْمَهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ، وَقَالُوا: لَا مَانِعَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْحُكْمُ، ثُمَّ تَنْزِلَ الْآيَةُ بِوَفْقِهِ. وَجَنَحَ آخَرُونَ إِلَى التَّرْجِيحِ، فَقَالُوا: يَتَرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ حَكَى لَفْظَ النَّبِيِّ ﷺ، بِخِلَافِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَلَمْ يَحْكِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ رُجُوعَهُ الثَّانِي، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّبِيُّ ﷺ يَتَجَهَّزُ إِلَى بَدْرٍ، وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى النَّجَاشِيِّ ثَمَانِينَ رَجُلًا.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِهِ: فَتَعَجَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَشَهِدَ بَدْرًا.
وَفِي السِّيَرِ لِابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَبَشَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكَّةَ وَحُبِسَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، فَشَهِدُوا بَدْرًا. فَعَلَى هَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَظَهَرَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُ بِالنَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ رُجُوعِهِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِلَى هَذَا الْجَمْعِ نَحَا الْخَطَّابِيُّ وَلَمْ يَقِفْ مَنْ تَعَقَّبَ كَلَامَهُ عَلَى مُسْتَنَدِهِ، وَيُقَوِّي هَذَا الْجَمْعَ رِوَايَةُ كُلْثُومٍ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ كُلًّا مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ حَكَى أَنَّ النَّاسِخَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: كَانَ نَسْخُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ؛ أَيْ كَانَ قَوْمِي يَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نُسِخَ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَتَرَكُوهُ، فَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَبِأَنَّ إِسْلَامَ الْأَنْصَارِ وَتَوَجُّهَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِأَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
كَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَيْهِمْ.
وَأَجَابَ ابْنُ حِبَّانَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ مَنْ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ أَيْضًا بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا بِمَكَّةَ يَجْتَمِعُونَ إِلَّا نَادِرًا، وَبِمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَهُمْ يُصَلُّونَ سَأَلَ الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ، فَيُخْبِرُهُ بِمَا فَاتَهُ، فَيَقْتضِي، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَهُمْ، حَتَّى جَاءَ مُعَاذٌ يَوْمًا، فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَطْعًا، لِأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِنَّمَا أَسْلَمَا بِهَا.
قَوْلُهُ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ. . . الْآيَةَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا، وَانْتَهَتْ رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: (الْوُسْطَى) وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمُرَادِ بِالْوُسْطَى وَبِالْقُنُوتِ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ السُّكُوتُ.
قَوْلُهُ: (فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ)؛ أَيْ عَنِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا حَالُ سُكُوتٍ حَقِيقِةً. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيَتَرَجَّحُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ حَتَّى الَّتِي لِلْغَايَةِ وَالْفَاءُ الَّتِي تُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ مَا سَبَقَ عَلَيْهَا، لِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute