لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ عَسَى أَنْ تُبْتَلَوْا بِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَمَّا كَانَ لِقَاءُ الْمَوْتِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَتِ الْأُمُورُ الْغَائِبَةُ لَيْسَتْ كَالْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْوُقُوعِ كَمَا يَنْبَغِي، فَيُكْرَهُ التَّمَنِّي لِذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ لَوْ وَقَعَ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفَ الْإِنْسَانُ مَا وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَقِيقَةِ انْتَهَى.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ طَلَبِ الْمُبَارَزَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: لَا تَدْعُ إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَإِذَا دُعِيتَ فَأَجِبْ تُنْصَرْ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ بَاغٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، إِلَخْ) أَشَارَ بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَى وُجُوهِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، فَبِالْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ وَبِمُجْرِي السَّحَابِ، إِلَى الْقُدْرَةِ الظَّاهِرَةِ فِي تَسْخِيرِ السَّحَابِ حَيْثُ يُحَرَّكُ الرِّيحُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَيْثُ يَسْتَمِرُّ فِي مَكَانِهِ مَعَ هُبُوبِ الرِّيحِ، وَحَيْثُ تُمْطِرُ تَارَةً وَأُخْرَى لَا تُمْطِرُ، فَأَشَارَ بِحَرَكَتِهِ إِلَى إِعَانَةِ الْمُجَاهِدِينَ فِي حَرَكَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ، وَبِوُقُوفِهِ إِلَى إِمْسَاكِ أَيْدِي الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، وَبِإِنْزَالِ الْمَطَرِ إِلَى غَنِيمَةِ مَا مَعَهُمْ حَيْثُ يَتَّفِقُ قَتْلُهُمْ، وَبِعَدَمِهِ إِلَى هَزِيمَتِهِمْ حَيْثُ لَا يَحْصُلُ الظَّفَرُ بِشَيءٍ مِنْهُمْ، وَكُلُّهَا أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَشَارَ بِهَازِمِ الْأَحْزَابِ إِلَى التَّوَسُّلِ بِالنِّعْمَةِ السَّابِقَةِ، وَإِلَى تَجْرِيدِ التَّوَكُّلِ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ.
وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ هَذِهِ النِّعَمِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ حَصَلَتِ النِّعْمَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ وَهِيَ الْإِسْلَامُ، وَبِإِجْرَاءِ السَّحَابِ حَصَلَتِ النِّعْمَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَهِيَ الرِّزْقُ، وَبِهَزِيمَةِ الْأَحْزَابِ حَصَلَ حِفْظُ النِّعْمَتَيْنِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ كَمَا أَنْعَمْتَ بِعَظِيمِ النِّعْمَتَيْنِ؛ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَحَفِظْتَهُمَا، فَأَبْقِهِمَا.
وَرَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ ﷺ دَعَا أَيْضًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا وَرَبُّهُمْ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ وَهُمْ عَبِيدُكَ، نَوَاصِينَا وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِكَ، فَاهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُرْسَلًا نَحْوَهُ، لَكِنْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ (وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ): فَإِنْ بُلِيتُمْ بِهِمْ فَقُولُوا اللَّهُمَّ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ: (وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ).
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، إِلَخْ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَاضِي، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ بِالْإِسْنَادِ الْوَاحِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَهَذَا مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَاقْتَصَرَ غَيْرُهُ لِهَذَا الْمَتْنِ الْمُخْتَصَرِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يَسُوقُوهُ مُطَوَّلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ) هُوَ الْعَقَدِيُّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادِ الْأَشْعَرِيُّ، كَذَا قَالَ وَلَمْ يُصِبْ، فَإِنَّهُ مَا لِابْنِ بَرَّادٍ رِوَايَةٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ. وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ عَنْ مُغِيرَةَ بِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالِاسْتِنْصَارِ، وَوَصِيَّةُ الْمُقَاتِلِينَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ أَمْرِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَسُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ الْحُسْنَى وَبِنِعَمِهِ السَّالِفَةِ، وَمُرَاعَاةُ نَشَاطِ النُّفُوسِ لِفِعْلِ الطَّاعَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى سُلُوكِ الْأَدَبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
١٥٧ - بَاب الْحَرْبُ خَدْعَةٌ
٣٠٢٧ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
[الحديث ٣٠٢٧ - أطرافه في: ٣١٢٠، ٣٦١٨، ٦٦٣٠]
٣٠٢٨ - وَسَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً.