وَخَالَفَهُ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَتْمٍ لَازِمٍ وَكَانَ بمَا فَعَلَهُ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ غَيْرَهُ بِقَصْدِ التَّيْسِيرِ. قَالَ عِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ كَدَاءٍ وَكُدَا؛ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْعُلْيَا بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، وَالسُّفْلَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ غَلَطٌ. قَالُوا: وَاخْتَلَفَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ خَالَفَ ﷺ بَيْنَ طَرِيقَيْهِ، فَقِيلَ: لِيَتَبَرَّكَ بِهِ كُلُّ مَنْ فِي طَرِيقِهِ، فَذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْعِيدِ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ مَا قِيلَ فِيهِ هُنَاكَ، وَبَعْضُهُ لَا يَتَأَتَّى اعْتِبَارُهُ هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ الْمُنَاسَبَةُ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ عِنْدَ الدُّخُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَكَانِ، وَعَكْسُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى فِرَاقِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ ﷺ خَرَجَ مِنْهَا مُخْتَفِيًا فِي الْهِجْرَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا ظَاهِرًا عَالِيًا. وَقِيلَ: لِأَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْبَيْتِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ دَخَلَ مِنْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، لِلْعَبَّاسِ: لَا أُسْلِمُ حَتَّى أَرَى الْخَيْلَ تَطْلُعُ مِنْ كَدَاءٍ. فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: شَيْءٌ طَلَعَ بِقَلْبِي، وَأنَّ اللَّهَ لَا يُطْلِعُ الْخَيْلَ هُنَاكَ أَبَدًا. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَذَكَّرْتُ أَبَا سُفْيَانَ بِذَلِكَ لَمَّا دَخَلَ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ؟ فَأَنْشَدَهُ:
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا … تُثِيرُ النَّقْعَ مَطْلَعُهَا كَدَاءُ
فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: ادْخُلُوهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانُ.
(تَنْبِيهٌ): حَكَى الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْعَذَرِيِّ أَنَّ بِمَكَّةَ مَوْضِعًا ثَالِثًا يُقَالُ لَهَا: كُدَيٌّ - وَهُوَ بِالضَّمِّ وَالتَّصْغِيرِ - يُخْرَجُ مِنْهُ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: حَقَّقَهُ الْعَذَرِيُّ عَنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمَكَّةَ. قَالَ: وَقَدْ بُنِيَ عَلَيْهَا بَابُ مَكَّةَ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ أَهْلُ الْيَمَنِ.
(تَنْبِيهَاتٌ):
أَوَّلُهَا: مَحْمُودٌ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَعَمْرٌو فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَحْمَدُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَأَنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَحَاتِمٌ فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي وَصْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِرْسَالِهِ، وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ الْوَجْهَيْنِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْإِرْسَالِ لَا تَقْدَحُ فِي رِوَايَةِ الْوَصْلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَصَلَهُ حَافِظٌ، وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ تَابَعَهُ ثِقَتَانِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَ الطَّرِيقَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ لِيَسْتَظْهِرَ بِهِمَا عَلَى وَهَمِ أَبِي أُسَامَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ أَوَّلًا.
(الثَّالِثُ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ: قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: كَدَاءُ وَكُدَا مَوْضِعَانِ وَالْمُرَادُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا مَوْضِعَانِ بِمُجَرَّدِ السِّيَاقِ، وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ بِنَقْلِ مَا فِيهَا مِنْ ضَبْطِ وَتَعْيِينِ جِهَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
٤٢ - بَاب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute