الْبَابِ لِيَتَنَاوَلَهُ مِنْ قُرْبٍ، أَوْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَرَأَى الثَّانِيَ أَوْفَقَ ; لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَعَرُّضًا لِلِاطِّلَاعِ، وَالثَّالِثُ يَسْتَدْعِي مَشَقَّةً فِي طَلَبِ الْمَاءِ، وَالثَّانِي أَسْهَلُهَا، فَفِعْلُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَكَائِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لِيَحْصُلَ بِهِ النَّفْعُ، وَكَذَا كَانَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَاقِي مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
١١ - بَاب لَا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلَّا عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ
١٤٤ - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا.
[الحديث ١٤٤ - طرفه في: ٣٩٤]
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ) فِي رِوَايَتِنَا بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَبِرَفْعِ الْقِبْلَةِ، وَفِي غَيْرِهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْقِبْلَةِ، وَلَامُ تُسْتَقْبَلُ مَضْمُومَةٌ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٌ أَوْ نَحْوُهُ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ: كَالْأَحْجَارِ الْكِبَارِ وَالسَّوَارِي وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهَا مِنَ السَّوَاتِرِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ، وَأُجِيبَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِحَقِيقَةِ الْغَائِطِ لِأَنَّهُ الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْفَضَاءِ، وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ أُعِدَّ لِذَلِكَ مَجَازًا فَيَخْتَصُّ النَّهْيُ بِهِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَهَذَا الْجَوَابُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ وَهُوَ أَقْوَاهَا. ثَانِيهَا: أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَضَاءِ، وَأَمَّا الْجِدَارُ وَالْأَبْنِيَةُ فَإِنَّهَا إِذَا اسْتُقْبِلَتْ أُضِيفَ إِلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ عُرْفًا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَيَتَقَوَّى بِأَنَّ الْأَمْكِنَةَ الْمُعَدَّةَ لَيْسَتْ صَالِحَةً لِأَنْ يُصَلَّى فِيهَا فَلَا يَكُونُ فِيهَا قِبْلَةٌ بِحَالٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةٌ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ مَكَانٌ لَا يَصْلُحُ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
ثَالِثُهَا: الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَفَادٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ ; لِأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ كُلَّهُ كَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَارْتَضَاهُ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَبْقَى لِتَفْصِيلِ التَّرَاجِمِ مَعْنًى، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ حَمَلْتُمُ الْغَائِطَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَمْ تَحْمِلُوهُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِيَتَنَاوَلَ الْفَضَاءَ وَالْبُنْيَانَ؟ لَا سِيَّمَا وَالصَّحَابِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ قَالَ - كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ - فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَعْمَلَ لَفْظَ الْغَائِطِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ التَّخْصِيصِ، وَلَوْلَا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ دَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالْأَبْنِيَةِ لَقُلْنَا بِالتَّعْمِيمِ ; لَكِنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنَ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ جَابِرٍ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ تَأْيِيدُ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْهَانَا أَنْ نَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَقْبِلَهَا بِفُرُوجِنَا إِذَا هَرَقْنَا الْمَاءَ.
قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ يَبُولُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِحَدِيثِ النَّهْيِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ، بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ حَالِهِ ﷺ لِمُبَالَغَتِهِ فِي التَّسَتُّرِ، وَرُؤْيَةُ ابْنِ عُمَرَ لَهُ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا سَيَأْتِي فَكَذَا رِوَايَةُ جَابِرٍ.
وَدَعْوَى خُصُوصِيَّةِ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ ﷺ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا؛ إِذِ الْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَدَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي عَلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فِي الْأَبْنِيَةِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى جَوَازِ اسْتِقْبَالِهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ