هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ فَحَمَلَ الْبَعْدِيَّةَ هُنَا عَلَى مَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، يَعْنِي أَنَّ أَعْمَالَ الْأُمَّةِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ سِيَاقَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ بَيَّنَ فِيهِ سَبَبَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثَ أَنَسٍ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ فِي إِيرَادِهِ الْحَدِيثَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَذَا أَوْرَدَهُمَا مُسْلِمٌ مَعًا.
وَاسْتَشْكَلَ إِيرَادُ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا لِكَوْنِهِ لَا ذِكْرَ فِيهِ لِلْخُشُوعِ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ يُدْرَكُ بِسُكُونِ الْجَوَارِحِ إِذِ الظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ، وَحَدَّثَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كَانَ كَذَلِكَ. قَالَ وَكَانَ يُقَالُ: ذَاكَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ. وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِذْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. نَعَمْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَلَا تُحْسِنُ صَلَاتَكَ، وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَفِي أُخْرَى: أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَفِي أُخْرَى: لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ: صَلَّى بِنَا الظُّهْرَ وَفِي مُؤَخَّرِ الصُّفُوفِ رَجُلٌ فَأَسَاءَ الصَّلَاةَ، وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ تَعَمَّدَ الْمُسَابَقَةَ لِيَنْظُرَ هَلْ يَعْلَمُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْ لَا؟ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ جَمَاعَةٍ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي صَلَوَاتٍ، وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: إِنَّ مُدَافَعَةَ الْأَخْبَثَيْنِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى حَدٍّ يَذْهَبُ مَعَهُ الْخُشُوعُ أَبْطَلَتِ الصَّلَاةَ، وَقَالَهُ أَيْضًا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ أَوِ الْمُرَادُ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِوُجُوبِهِ، وَكِلَاهُمَا (١) فِي أَمْرٍ يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْمُدَافَعَةِ وَتَرْكِ الْخُشُوعِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى الْقَاضِي وَأَبِي زَيْدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ الْخُشُوعَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ حَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي جَمِيعِهَا، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنَّ الْخُشُوعَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ، قِيلَ لَهُ بِحَسْبِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى صَلَاتِهِ بِقَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ ﷿ وَلَا طَاقَةَ لَهُ بِمَا اعْتَرَضَهُ مِنَ الْخَوَاطِرِ. فَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ مِنَ الْخُشُوعِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا. وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمُنِيرِ إِطْلَاقَ الْفَرْضِيَّةِ وَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ عَدَمَ الْخُشُوعِ تَابِعٌ لِمَا يَظْهَرُ عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ وَهُوَ أَمْرٌ مُتَفَاوِتٌ، فَإِنْ أَثَّرَ نَقْصًا فِي الْوَاجِبَاتِ كَانَ حَرَامًا وَكَانَ الْخُشُوعُ وَاجِبًا وَإِلَّا فَلَا.
وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِنَ النَّقْصِ فِي الصَّلَاةِ بِرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُمْ دُونَ تَحْذِيرِهِمْ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ الْمُبَيَّنِ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ فَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي التَّعْلِيلِ بِرُؤْيَتِهِ ﷺ تَنْبِيهًا عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا أَحْسَنُوا الصَّلَاةَ لِكَوْنِ النَّبِيِّ ﷺ يَرَاهُمْ أَيْقَظَهُمْ ذَلِكَ إِلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَةِ لَهُ ﷺ بِذَلِكَ، وَلِكَوْنِهِ يُبْعَثُ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ يَرَاهُمْ تَحَفَّظُوا فِي عِبَادَتِهِمْ لِيَشْهَدَ لَهُمْ بِحُسْنِ عِبَادَتِهِمْ.
٨٩ - بَاب مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ
٧٤٣ - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ
(١) كذا: ولعله " وكلاهما "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute