مَوْتًا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةُ. وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الضَّمَائِرِ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَكَانَتْ وَاسْتَغْنَى عَنْ تَسْمِيَتِهَا لِشُهْرَتِهَا بِذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي الْحَدِيثِ اخْتِصَارًا أَوِ اكْتِفَاءً بِشُهْرَةِ الْقِصَّةِ لِزَيْنَبَ، وَيُؤَوَّلُ الْكَلَامُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَجَعَ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّهَا أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ.
قُلْتُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ حَذَفَ لَفْظَ سَوْدَةَ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ لَمَّا أَخْرَجَهُ فِي الصَّحِيحِ لِعِلْمِهِ بِالْوَهْمِ فِيهِ، وَإِنَّهُ لَمَّا سَاقَهُ فِي التَّارِيخِ بِإِثْبَاتِ ذِكْرِهَا ذَكَرَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانَتْ أَوَّلَ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ لُحُوقًا بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَارِيخِ وَفَاتِهَا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَأَنَّهُ سَنَةَ عِشْرِينَ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ بَرْزَةَ بِنْتِ رَافِعٍ قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ الْعَطَاءُ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِالَّذِي لَهَا، فَتَعَجَّبَتْ وَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ، وَأَمَرَتْ بِتَفْرِقَتِهِ، إِلَى أَنْ كُشِفَ الثَّوْبُ فَوَجَدَتْ تَحْتَهُ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكُنِي عَطَاءٌ لِعُمَرَ بَعْدَ عَامِي هَذَا، فَمَاتَتْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ لُحُوقًا بِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ أَوَّلَ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ لُحُوقًا بِهِ. فَهَذِهِ رِوَايَاتٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ وَهْمًا. وَقَدْ سَاقَهُ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ عَنْهُ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: فَأَخَذْنَ قَصَبَةً يَتَذَارَعْنَهَا، فَمَاتَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ قَالَ: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا بِالصَّدَقَةِ.
هَذَا لَفَظَهُ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَهُوَ الْحَرَّانِيُّ عَنْهُ: فَأَخَذْنَ قَصَبَةً فَجَعَلْنَ يَذْرَعْنَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَسْرَعَهُنَّ بِهِ لُحُوقًا، وَكَانَتْ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، وَكَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ الصَّدَقَةِ. وَهَذَا السِّيَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ إِلَّا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ دُخُولِ الْوَهْمِ عَلَى الرَّاوِي فِي التَّسْمِيَةِ خَاصَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ ظَاهِرٌ، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ وَهُوَ لَفْظُ أَطُولُكُنَّ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحْذُورٌ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ آجَالٍ مُقَدَّرَةٍ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ أَجَابَهُنَّ بِلَفْظٍ غَيْرِ صَرِيحٍ، وَأَحَالَهُنَّ عَلَى مَا لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا بِآخَرَ. وَسَاغَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ لَمْ يُلَمْ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ مَجَازَهُ، لِأَنَّ نِسْوَةَ النَّبِيِّ ﷺ حَمَلْنَ طُولَ الْيَدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِنَّ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُنَّ: لَيْسَ ذَلِكَ أَعْنِي، إِنَّمَا أَعْنِي أَصْنَعُكُنَّ يَدًا. فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يَحْتَجْنَ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى ذَرْعِ أَيْدِيهِنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ، لِأَنَّ النِّسْوَةَ فَهِمْنَ مِنْ طُولِ الْيَدِ الْجَارِحَةَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالطُّولِ كَثْرَةُ الصَّدَقَةِ، وَمَا قَالَهُ لَا يُمْكِنُ اطِّرَادُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
١٢ - بَاب صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ
وَقَوْلِهِ ﷿: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ - إِلَى قَوْلِهِ - ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
١٣ - بَاب صَدَقَةِ السِّرِّ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ﵁ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ.
قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الْآيَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute