النَّاذِرُ وَالْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِوَفَاءِ النَّذْرِ إِذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ، وَفِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَهَلْ يَجِبُ فِي الثَّانِي كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ سَيَأْتِي بَيَانُهُمَا بَعْدَ بَابَيْنِ، وَيَأْتِي أَيْضًا بَيَانُ الْحُكْمِ فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْحَدِيثُ وَهُوَ نَذْرُ الْمُبَاحِ، وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الطَّاعَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: وَاجِبٌ عَيْنًا فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا وَصِفَةً فِيهِ، فَيَنْعَقِدُ كَإِيقَاعِهَا أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَوَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ فَيَنْعَقِدُ، وَمَنْدُوبٌ عِبَادَةً عَيْنًا كَانَ أَوْ كِفَايَةً فَيَنْعَقِدُ، وَمَنْدُوبٌ لَا يُسَمَّى عِبَادَةً كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَزِيَارَةِ الْقَادِمِ فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ وَالْأَرْجَحُ انْعِقَادُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُهُ فَلَا يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ
٢٩ - بَاب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ
٦٦٩٧ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ)، أَيْ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ أَوْ لَا؟ وَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ جَاهِلِيَّةُ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ حَالُهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَأَصْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ الطَّحَاوِيُّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَنْ نَذَرَ وَهُوَ مُشْرِكٌ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَوْضَحَ الْمُرَادَ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي نَذْرِ عُمَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ يَعْتَكِفُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَاسَ الْبُخَارِيُّ الْيَمِينَ عَلَى النَّذْرِ، وَتَرَكَ الْكَلَامَ عَلَى الِاعْتِكَافِ، فَمَنْ نَذَرَ أَوْ حَلَفَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَلَى شَيْءٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ قِصَّةِ عُمَرَ، قَالَ: وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَذَا قَالَ، وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ وَجْهٌ لِبَعْضِهِمْ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ وَجُلَّ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَكَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: يَجِبُ وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْبُخَارِيُّ وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ.
قُلْتُ: إِنْ وُجِدَ عَنِ الْبُخَارِيِّ التَّصْرِيحُ بِالْوُجُوبِ قُبِلَ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ تَرْجَمَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنْ يَقُولَ بِالنَّدْبِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ يُنْدَبُ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَابِسِيُّ: لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الْمَشُورَةِ، كَذَا قَالَ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ مِنْ آكَدِ الْأُمُورِ فَغَلَّظَ أَمْرَهُ بِأَنْ أَمَرَ عُمَرَ بِالْوَفَاءِ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ وَالْكَافِرُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ بِالْعِبَادَةِ، وَأَجَابَ عَنْ قِصَّةِ عُمَرَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ﷺ فَهِمَ مِنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمَحَ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ نَذَرَهُ، فَأَمَرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ طَاعَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَكَانَ ذَلِكَ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُخَالِفُ هَذَا، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ قَوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ وَإِلَّا فَلَا
قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، هُوَ الْعُمَرِيُّ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، وَأَوَّلُ حَدِيثِهِ: لَمَّا قَفَلْنَا مِنْ حُنَيْنٍ سَأَلَ عُمَرُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَفَادَ تَعْيِينَ زَمَانِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ الِاخْتِلَافَ عَلَى نَافِعٍ ثُمَّ عَلَى أَيُّوبَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ هُنَاكَ، وَكَذَا ذَكَرْتُ فِيهِ فَوَائِدَ زَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاقِهِ، وَكَذَلِكَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِكَافِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute