عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ بِلَفْظِ: مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ، وَالرِّوَايَاتُ الَّتِي فِيهَا شَرُّ النَّاسِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا مِنْ شَرِّ النَّاسِ، وَوَصْفُهُ بِكَوْنِهِ شَرَّ النَّاسِ أَوْ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مُبَالَغَةٌ فِي ذَلِكَ، وَرِوَايَةُ أَشَرِّ النَّاسِ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ لُغَةٌ فِي شَرٍّ يُقَالُ: خَيْرٌ وَأَخْيَرُ وَشَرٌّ وَأَشَرُّ بِمَعْنًى، وَلَكِنِ الَّذِي بِالْأَلِفِ أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ خَاصَّةً، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا مُجَانِبَةٌ لِلْأُخْرَى ظَاهِرًا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهَا إِلَّا بِمَا ذُكِرَ مِنْ خِدَاعِهِ الْفَرِيقَيْنِ لِيَطَّلِعَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ فَهُوَ شَرُّهُمْ كُلُّهُمْ.
وَالْأَوْلَى حَمْلُ النَّاسِ عَلَى عُمُومِهِ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: مِنْ شَرِّ خَلْقِ اللَّهِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا كَانَ ذُو الْوَجْهَيْنِ شَرَّ النَّاسِ؛ لِأَنَّ حَالَهُ حَالُ الْمُنَافِقِ، إِذْ هُوَ مُتَمَلِّقٌ بِالْبَاطِلِ وَبِالْكَذِبِ، مُدْخِلٌ لِلْفَسَادِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا، فَيُظْهِرُ لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا وَمُخَالِفٌ لِضِدِّهَا، وَصَنِيعُة نِفَاقٌ وَمَحْضُ كَذِبٍ وَخِدَاعٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ. قَالَ: فَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ بِذَلِكَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَهُوَ مَحْمُودٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْ يُزَيِّنُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ عَمَلَهَا وَيُقَبِّحُهُ عِنْدَ الْأُخْرَى وَيَذُمُّ كُلَّ طَائِفَةٍ عِنْدَ الْأُخْرَى، وَالْمَحْمُودُ أَنْ يَأْتِيَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ بِكَلَامٍ فِيهِ صَلَاحُ الْأُخْرَى وَيَعْتَذِرُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَنِ الْأُخْرَى، وَيَنْقُلُ إِلَيْهِ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْجَمِيلِ وَيَسْتُرُ الْقَبِيحَ.
وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ: الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ هَؤُلَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ أَوْلَى، وَتَأَوَّلَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ يُرَائِي بِعَمَلِهِ؛ فَيُرِي النَّاسَ خُشُوعًا وَاسْتِكَانَةً وَيُوهِمُهُمْ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ حَتَّى يُكْرِمُوهُ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، قَالَ: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لَوِ اقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى صَدْرِهِ؛ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُطْلَقِ ذِي الْوَجْهَيْنِ، لَكِنْ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ تَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ؛ وَهِيَ قَوْلُهُ: يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، قُلْتُ: وَقَدِ اقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى صَدْرِ الْحَدِيثِ، لَكِنْ دَلَّتْ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ اخْتَصَرَهُ، فَإِنَّهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَقَدْ ثَبَتَ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ بِتَمَامِهِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ نُمَيْرٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا هِيَ الَّتِي تَرُدُّ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ صَرِيحًا، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَنْبَغِي لِذِي الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَمَّنْ ذَكَرَهُ بِخِلَافِ حَدِيثِ الْبَابِ؛ فَإِنَّهُ فَسَّرَ مَنْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٥٣ - بَاب مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ
٦٠٥٩ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ) قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمَذْمُومَ مِنْ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ مَنْ يَقْصِدُ الْإِفْسَادَ، وَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute