وَأَكْثَرُ هُجُومًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفُوا فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْحُدُودَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ قَوِيٌّ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَالًا إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَتْلِ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ الْقُضَاةِ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ إِجَازَةِ ذَلِكَ حُجَّتُهُمْ فِيهِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إِلَى الْمُلُوكِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَشْهَدَ أَحَدًا عَلَى كِتَابِهِ. قَالَ: ثُمَّ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَوَّارٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى مِنَ اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ لِمَا دَخَلَ النَّاسُ مِنَ الْفَسَادِ فَاحْتِيطَ لِلدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ إِجَازَةُ الْخَوَاتِيمِ حَتَّى أَنَّ الْقَاضِيَ لَيَكْتُبُ لِلرَّجُلِ الْكِتَابَ، فَمَا يَزِيدُ عَلَى خَتْمِهِ فَيُعْمَلُ بِهِ، حَتَّى اتُّهِمُوا فَصَارَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفُوا إِذَا أَشْهَدَ الْقَاضِي شَاهِدَيْنِ عَلَى مَا كَتَبَهُ وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمَا وَلَا عَرَّفَهُمَا بِمَا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا﴾ قَالَ: وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كِتَابُهُ فَالْغَرَضُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إِلَيْهِ، وَقَدْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ أُمُورِ النَّاسِ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ كُلُّ أَحَدٍ كَالْوَصِيَّةِ إِذَا ذَكَرَ الْمُوصِي مَا فَرَّطَ فِيهِ مَثَلًا. قَالَ: وَقَدْ أَجَازَ مَالِكٌ أَيْضًا أَنْ يَشْهَدَا عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَخْتُومَةِ وَعَلَى الْكِتَابِ الْمَطْوِيِّ، وَيَقُولَانِ لِلْحَاكِمِ: نَشْهَدُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ كُتُبُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى عُمَّالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى مَنْ حَمَلَهَا، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الْكِتَابَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُومًا فَالْحُجَّةُ بِمَا فِيهِ قَائِمَةٌ لِكَوْنِهِ ﷺ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَ الْخَاتَمَ لِقَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الْكِتَابَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَخْتُومًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي حُجَّةٌ مَخْتُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَخْتُومٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْحُكْمِ بِالْخَطِّ الْمُجَرَّدِ كَأَنْ يَرَى الْقَاضِي خَطَّهُ بِالْحُكْمِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ الْمَحْكُومُ لَهُ الْعَمَلَ بِهِ، فَالْأَكْثَرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ الْوَاقِعَةَ كَمَا فِي الشَّاهِدِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِي حِرْزِ الْحَاكِمِ أَوِ الشَّاهِدِ مُنْذُ حُكِمَ فِيهِ أَوْ تَحَمَّلَ إِلَى أَنْ طُلِبَ مِنْهُ الْحُكْمُ أَوِ الشَّهَادَةُ جَازَ وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطُّهُ سَاغَ لَهُ الْحُكْمُ وَالشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَالْأَوْسَطُ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَجَّحَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّارِحُ لِمَقْصُودِ الْبَابِ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَدَلَّ عَلَى الْخَطِّ بِكِتَابِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى الرُّومِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مَضْمُونَ الْكِتَابِ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ قَدِ اشْتَهَرَ لِثُبُوتِ الْمُعْجِزَةِ وَالْقَطْعِ بِصِدْقِهِ فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ إِنَّمَا يُفِيدُ ظَنًّا، وَالْإِسْلَامُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ إِجْمَاعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ حَصَلَ بِمَضْمُونِ الْخَطِّ مَقْرُونًا بِالتَّوَاتُرِ السَّابِقِ عَلَى الْكِتَابِ، فَكَانَ الْكِتَابُ كَالتَّذْكِرَةِ وَالتَّوْكِيدِ فِي الْإِنْذَارِ، مَعَ أَنَّ حَامِلَ الْكِتَابِ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اطَّلَعَ عَلَى مَا فِيهِ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْعُمْدَةَ عَلَى أَمْرِهِ الْمَعْلُومِ مَعَ قَرَائِنِ الْحَالِ الْمُصَاحِبَةُ لِحَامِلِ الْكِتَابِ، وَمَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ مَفْرُوضَةٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ، قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ وَبَيْنَ كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي أَنَّ الْقَائِلَ بِالْأَوَّلِ أَقَلُّ مِنَ الْقَائِلِ بِالثَّانِي تَطَرُّقُ الِاحْتِمَالِ فِي الْأَوَّلِ وَنُدُورهُ فِي الثَّانِي لِبُعْدِ احْتِمَالِ التَّزْوِيرِ عَلَى الْقَاضِي، وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ تُمْكِنُ الْمُرَاجَعَةُ، وَلِذَلِكَ شَاعَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْقُضَاةِ وَنُوَّابِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
١٦ - بَاب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute