السِّيَرَاءَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ الصِّرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حُلَّةِ عَلِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ حَرِيرًا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ، وَفِي الْأَوَّلِ عَرْضُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ وَالتَّابِعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِهِ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الطَّعْنِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَفِيهِ جَوَازُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ مُبَاشَرَةُ الصَّالِحِينَ وَالْفُضَلَاءِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِيهِ تَرْكُ النَّبِيِّ ﷺ لِبَاسَ الْحَرِيرِ وَهَذَا فِي الدُّنْيَا. وَإِرَادَةُ تَأْخِيرِ الطَّيِّبَاتِ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي لَا انْقِضَاءَ لَهَا، إِذْ تَعْجِيلُ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مِنَ الْحَزْمِ، فَزَهِدَ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ سَرَفٍ وَحَرَّمَهُ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ تَرْكَهُ ﷺ لُبْسَ الْحَرِيرِ إِنَّمَا هُوَ لِاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الزُّهْدُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي خَالِصِ الْحَلَالِ وَمَا لَا عُقُوبَةَ فِيهِ، فَالتَّقَلُّلُ مِنْهُ وَتَرْكُهُ مَعَ الْإِمْكَانِ هُوَ الَّذِي تَتَفَاضَلُ فِيهِ دَرَجَاتُ الزُّهَّادِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ مُرَادَ ابْنِ بَطَّالٍ بَيَانُ سَبَبِ التَّحْرِيمِ فَيَسْتَقِيمُ مَا قَالَهُ. وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الرِّجَالِ الثِّيَابَ الْحَرِيرَ وَتَصَرُّفِهِمْ فِيهَا بِالْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ لَا اللُّبْسِ. وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْكَافِرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ بِالْهَدِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ جَوَازُ الْهَدِيَّةِ لِلْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ حَرْبِيًّا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عُطَارِدًا إِنَّمَا وَفَدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مُشْرِكٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ وِفَادَةِ عُطَارِدٍ سَنَةَ تِسْعٍ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ الْحُلَّةِ كَانَتْ حِينَئِذٍ؛ جَازَ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَمَا زَالَ الْمُشْرِكُونَ يَقْدَمُونَ الْمَدِينَةَ وَيُعَامِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَنَةَ الْوُفُودِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْفَتْحِ وَحَجِّ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ مَنْعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَكَّةَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَفِيهَا وَقَعَ النَّهْيُ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مُخَاطَبًا بِالْفُرُوعِ لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا مُنِعَ مِنْ لُبْسِ الْحُلَّةِ أَهْدَاهَا لِأَخِيهِ الْمُشْرِكِ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَخَاهُ بِلُبْسِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِ كَمَا وَقَعَ فِي حَقِّ عُمَرَ فَيَنْتَفِعُ بِهَا بِالْبَيْعِ أَوْ كِسْوَةِ النِّسَاءِ وَلَا يَلْبَسُ هُوَ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ عِنْدَهُ مِنَ الْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ مَا يَحْمِلُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْكَفِّ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّ كُفْرَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى عَدَمِ الْكَفِّ عَنْ تَعَاطِي الْمُحَرَّمِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ لُبْسُهُ لَمَا أَهْدَى لَهُ لِمَا فِي تَمْكِينِهِ مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ ثَمَّ يَحْرُمُ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا وَإِنِ احْتَمَلَ أَنَّهُ قَدْ يَشْرَبُهُ عَصِيرًا، وَكَذَا بَيْعُ الْغُلَامِ الْجَمِيلِ مِمَّنْ يُشْتَهَرُ بِالْمَعْصِيَةِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كان عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَتَكُونَ مَشْرُوعِيَّةُ خِطَابِ الْكَافِرِ بِالْفُرُوعِ تَرَاخَتْ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٣١ - بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَجَوَّزُ مِنْ اللِّبَاسِ وَالْبُسْطِ
٥٨٤٣ - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: لَبِثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَجَعَلْتُ أَهَابُهُ، فَنَزَلَ يَوْمًا مَنْزِلًا، فَدَخَلَ الْأَرَاكَ، فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلْتُهُ، فَقَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهُنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي كَلَامٌ فَأَغْلَظَتْ لِي فَقُلْتُ لَهَا: وَإِنَّكِ لَهُنَاكِ؟ قَالَتْ تَقُولُ: هَذَا لِي، وَابْنَتُكَ تُؤْذِي النَّبِيَّ ﷺ، فَأَتَيْتُ حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: إِنِّي أُحَذِّرُكِ أَنْ تَعْصِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهَا فِي أَذَاهُ، فَأَتَيْتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute