وَهِيَ هَيْئَةٌ تُعِينُ إِسْرَاعِ الْمَشْيِ بِأَنْ يُدْخِلَ رِدَاءَهُ تَحْتَ إِبِطِهِ الْأَيْمَنِ وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ فَيُبْدِي مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنَ وَيَسْتُرُ الْأَيْسَرَ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سِوَى مَالِكٍ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا) بِوَزْنِ فَاعَلْنَا مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ أَرَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ أَنَّا أَقْوِيَاءَ. قَالَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مِنَ الرِّيَاءِ أَيْ أَظْهَرْنَا لَهُمُ الْقُوَّةَ وَنَحْنُ ضُعَفَاءُ، وَلِهَذَا رُوِيَ رَايَيْنَا بِيَاءَيْنِ حَمْلًا لَهُ عَلَى الرِّيَاءِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الرِّئَاءَ بِهَمْزَتَيْنِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ هَمَّ بِتَرْكِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ لِأَنَّهُ عَرَفَ سَبَبَهُ وَقَدِ انْقَضَى فَهَمَّ أَنْ يَتْرُكَهُ لِفَقْدِ سَبَبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا فَرَأَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ أَوْلَى مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَأَيْضًا إِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ إِذَا فَعَلَهُ تَذَكَّرَ السَّبَبَ الْبَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَذَكَّرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى إِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ) زَادَ يَعْق وبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ سَعِيدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فِي آخِرِهِ ثُمَّ رَمَلَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا عِنْدَ مُرَاءَاةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِسْرَاعِ إِذَا مَرُّوا مِنْ جِهَةِ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا بِإِزَاءِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَإِذَا مَرُّوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ مَشَوْا عَلَى هَيْئَتِهِمْ كَمَا هُوَ بَيِّنٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمَّا رَمَلُوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَسْرَعُوا فِي جَمِيعِ كُلِّ طَوْفَةٍ فَكَانَتْ سُنَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ سَأَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نَافِعًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ عَنْ مَشْيِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنِ، أَيْ كَانَ يَرْفُقُ بِنَفْسِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ نَافِعٌ إِنْ كَانَ اسْتَنَدَ فِيهِ إِلَى فَهْمِهِ فَلَا يَدْفَعُ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلصِّفَةِ الْأُولَى مِنَ الرَّمَلِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الِاتِّبَاعِ.
(تَكْمِيلٌ): لَا يُشْرَعُ تَدَارُكُ الرَّمَلِ، فَلَوْ تَرَكَهُ فِي الثَّلَاثِ لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعِ، لِأَنَّ هَيْئَتَهَا السَّكِينَةُ فَلَا تُغَيَّرُ، وَيَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ فَلَا رَمَلَ عَلَى النِّسَاءِ، وَيَخْتَصُّ بِطَوَافٍ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِهِ بَيْنَ مَاشٍ وَرَاكِبٍ، وَلَا دَمَ بِتَرْكِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَاخْتُلِفَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ رَمَلَ وَلَا مُشْرِكَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ يَعْنِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ إِلَّا أَنَّ تَارِكَهُ لَيْسَ تَارِكًا لِعَمَلٍ بَلْ لِهَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَكَانَ كَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، فَمَنْ لَبَّى خَافِضًا صَوْتَهُ لَمْ يَكُنْ تَارِكًا لِلتَّلْبِيَةِ بَلْ لِصِفَتِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَعْدَ أَنْ خَرَّجَ الْحَدِيثَ الثَّالِثَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَرْفُوعِ مِنْهُ وَزَادَ فِيهِ قَالَ نَافِعٌ وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - يُزَاحِمُ عَلَى الْحَجَرِ حَتَّى يُدْمَى قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي شَيْءٍ يَعْنِي بَابَ الرَّمَلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ ثَابِتٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ أَيْ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَكَانَ يَرْمُلُ، وَمِنْ ثَمَّ سَأَلَ الرَّاوِي نَافِعًا عَنِ السَّبَبِ فِي كَوْنِهِ كَانَ يَمْشِي فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ آخَرُ): اسْتُشْكِلَ قَوْلُ عُمَرَ رَاءَيْنَا مَعَ أَنَّ الرِّيَاءَ بِالْعَمَلِ مَذْمُومٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ صُورَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ صُورَةَ الرِّيَاءِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مَذْمُومَةً، لِأَنَّ الْمَذْمُومَ أَنْ يُظْهِرُ الْعَمَلَ لِيُقَالَ إِنَّهُ عَامِلٌ وَلَا يَعْمَلُهُ بِغَيْبَةٍ إِذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَادَعَةِ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ أَوْهَمُوا الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ أَقْوِيَاءَ لِئَلَّا يَطْمَعُوا فِيهِمْ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ.
٥٨ - بَاب اسْتِلَامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ
١٦٠٧ - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute