الشَّيْخَيْنِ إِلَّا الضَّحَّاكَ فَلَمْ يُخَرِّجَا لَهُ.
وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وَوَافَقَهُ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، وَوَكِيعٌ فِي آخِرِهِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ قَدِ اشْتَوَوْهَا أَكَلُوهَا، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَالْأَحَادِيثُ الْمَاضِيَةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْحِلِّ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا نَصًّا وَتَقْرِيرًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا حَمَلَ النَّهْيَ فِيهِ عَلَى أَوَّلِ الْحَالِ عِنْدَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا مُسِخَ وَحِينَئِذٍ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ، ثُمَّ تَوَقَّفَ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَحُمِلَ الْإِذْنُ فِيهِ عَلَى ثَانِي الْحَالِ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَسْتَقْذِرُهُ فَلَا يَأْكُلُهُ وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَأَكَلَ عَلَى مَائِدَتِهِ فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ فِي حَقِّ مَنْ يَتَقَذَّرُهُ، وَتُحْمَلُ أَحَادِيثُ الْإِبَاحَةِ عَلَى مَنْ لَا يَتَقَذَّرُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْرَهُ مُطْلَقًا. وَقَدْ أَفْهَمَ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي حَقِّ مَنْ يَتَقَذَّرُهُ لِمَا يَتَوَقَّعُ فِي أَكْلِهِ مِنَ الضَّرَرِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِقِصَّةِ الضَّبِّ، فَأَكْثَرَ الْقَوْمُ حَوْلَهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِئْسَ مَا قُلْتُمْ، مَا بُعِثَ نَبِيُّ اللَّهِ إِلَّا مُحَرِّمًا أَوْ مُحَلِّلًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ ﷺ لَا آكُلُهُ أَرَادَ لَا أُحِلُّهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ قِسْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُحَالٌ.
وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَتَّضِحْ إِلْح اقُهُ بِالْحَلَالِ أَوِ الْحَرَامِ يَكُونُ مِنَ الشُّبُهَاتِ فَيَكُونُ مِنْ حُكْمِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ.
قُلْتُ: وَفِي كَوْنِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ إِذَا تَعَارَضَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، أَمَّا الشَّارِعُ إذَا سُئِلَ عَنْ وَاقِعَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَعَلَ مَحَطَّ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةَ لَفْظَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَبِهَا يَتَّجِهُ إِنْكَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُسْتَغْنَى عَنْ تَأْوِيلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لَا آكُلُهُ بِلَا أُحِلُّهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ شَيْخُ مُسْلِمٍ فِيهِ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ بِالسَّنَدِ الَّذِي سَاقَهُ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ وَلَعَلَّ مُسْلِمًا حَذَفَهَا عَمْدًا لِشُذُوذِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ لَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَشْهَرُ مَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ ابْنُ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ لَا أُحِلُّهُ بَلْ جَاءَ التَّصْرِيحُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ فَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ لَا أُحِلُّهُ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ وَهُوَ ثِقَةٌ لَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ قَوْمٍ كَانُوا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَانَتْ رِوَايَةً عَنْ مَجْهُولٍ، وَلَمْ يَقُلْ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ إِنَّهُمْ صَحَابَةٌ حَتَّى يُغْتَفَرَ عَدَمُ تَسْمِيَتِهِمْ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ أَكْلَهُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسِخَتْ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ وَشَوَاهِدَهُ قَبْلُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْجَزْمُ بِأَنَّ الضَّبَّ مِمَّا مُسِخَ، وَإِنَّمَا خَشِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ فَتَوَقَّفَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ، وَبِهَذَا أَجَابَ الطَّحَاوِيُّ ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَهِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا - أَوْ يَمْسَخْ قَوْمًا - فَيَجْعَلْ لَهُمْ نَسْلًا وَلَا عَاقِبَةً وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْلِمٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَيَتَعَجَّبُ مِنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ إِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ دَعْوَى، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
كَذَا قَالَ ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآثَارِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبِّ، وَبِهِ أَقُولُ. قَالَ: وَقَدِ احْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لِأَصْحَابِهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، فَسَاقَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute