قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ؟ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُعْمِلْ بِالْمَعْرُوفِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: نَصَبَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَلَمًا عَلَى الْخَبَرِ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِ مَا فِيهِ إِيجَازًا.
قَوْلُهُ: (سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) أَيْ: ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ) أَيْ: عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ الْمُتَأَكِّدِ أَوْ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعِبَارَةُ صَالِحَةٌ لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِحْبَابِ، كَقَوْلِهِ ﵊: عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ خِصَالٍ، فَذَكَرَ مِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ اتِّفَاقًا، وَزَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِكُلِّ يَوْمٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الصُّلْحِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَالسُّلَامَى بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ: الْمَفْصِلُ، وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمَائَةِ مَفْصِلٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) كَأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ لَفْظِ الصَّدَقَةِ الْعَطِيَّةَ، فَسَأَلُوا عَمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ بِإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَلْ تَلْتَحِقُ هَذِهِ الصَّدَقَةُ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ الَّتِي تُحْسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْفَرْضِ الَّذِي أَخَلَّ بِهِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا غَيْرُهَا لِمَا تَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ أَنَّهَا شُرِعَتْ بِسَبَبِ عِتْقِ الْمَفَاصِلِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِنَّهُ يُمْسِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (الْمَلْهُوفُ) أَيِ: الْمُسْتَغِيثُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا أَوْ عَاجِزًا.
قَوْلُهُ: (فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ) فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ: فَلْيَأْمُرْ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالْمَعْرُوفِ. زَادَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ: وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.
قَوْلُهُ: (وَلْيُمْسِكْ) فِي رِوَايَتِهِ فِي الْأَدَبِ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ كَذَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ أَصَحُّ سِيَاقًا، فَظَاهِرُ سِيَاقِ الْبَابِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِمْسَاكَ عَنِ الشَّرِّ رُتْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِمْسَاكُ هُوَ الرُّتْبَةُ الْأَخِيرَةُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا) كَذَا وَقَعَ هُنَا بِضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْخَصْلَةِ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَدَبِ: فَإِنَّهُ - أَيِ الْإِمْسَاكُ - لَهُ، أَيْ: لِلْمُمْسِكِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْمُمْسِكِ عَنِ الشَّرِّ إِذَا نَوَى بِالْإِمْسَاكِ الْقُرْبَةَ، بِخِلَافِ مَحْضِ التَّرْكِ، وَالْإِمْسَاكُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالسُّلَامَةِ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ شَرُّهُ لَا يَتَعَدَّى نَفْسَهُ فَقَدْ تَصَدَّقَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ مَنَعَهَا مِنَ الْإِثْمِ، قَالَ: وَلَيْسَ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَرْتِيبًا، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِيضَاحِ لِمَا يَفْعَلُهُ مَنْ عَجَزَ عَنْ خَصْلَةٍ مِنَ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ خَصْلَةً أُخْرَى، فَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِيَدِهِ فَيَتَصَدَّقَ، وَأَنْ يُغِيثَ الْمَلْهُوفَ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ فَلْيَفْعَلِ الْجَمِيعَ، وَمَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَعْمَالَ الْخَيْرِ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الصَّدَقَاتِ فِي الْأَجْرِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَاصِرَةِ، وَمُحَصَّلُ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَهِيَ إِمَّا بِالْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمَالُ إِمَّا حَاصِلٌ أَوْ مُكْتَسَبٌ، وَغَيْرُ الْمَالِ إِمَّا فِعْلٌ، وَهُوَ الْإِغَاثَةُ، وَإِمَّا تَرْكٌ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ.
انْتَهَى، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ: تَرْتِيبُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَدَبَ إِلَى الصَّدَقَةِ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا نَدَبَ إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهَا أَوْ يَقُومُ مَقَامَهَا وَهُوَ الْعَمَلُ وَالِانْتِفَاعُ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ نَدَبَ إِلَى مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْإِغَاثَةُ، وَعِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ