وَنَحْوُهُ. (تَنْبِيهٌ): كَانَ بِنَاءُ عُثْمَانَ لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ سَنَةَ ثَلَاثِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ فِي آخِرِ سَنَةٍ مِنْ خِلَافَتِهِ، فَفِي كِتَابِ السِّيَرِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ بُنْيَانِ عُثْمَانَ الْمَسْجِدَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُنْجَزُ، فَإِنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِهِ قُتِلَ عُثْمَانُ. قَالَ مَالِكٌ: فَكَانَ كَذَلِكَ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ تَارِيخَ ابْتِدَائِهِ وَالثَّانِي تَارِيخَ انْتِهَائِهِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا) التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلشُّيُوعِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَزَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُثْمَانَ: وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَعِنْدَ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ، وَحَمَلَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي تَفْحَصُ الْقَطَاةُ عَنْهُ لِتَضَعَ فِيهِ بَيْضَهَا وَتَرْقُدَ عَلَيْهِ لَا يَكْفِي مِقْدَارُهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ جَابِرٍ هَذِهِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَزِيدَ فِي مَسْجِدٍ قَدْرًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ هَذَا الْقَدْرَ، أَوْ يَشْتَرِكُ جَمَاعَةٌ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ فَتَقَعُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ مَوْضِعَ السُّجُودِ وَهُوَ مَا يَسَعُ الْجَبْهَةَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، لَكِنَّ قَوْلَهُ بَنَى يُشْعِرُ بِوُجُودِ بِنَاءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أُمِّ حَبِيبَةَ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتًا، أَخْرَجَهُ سَمُّوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْمَكَانُ الْمُتَّخَذُ لَا مَوْضِعُ السُّجُودِ فَقَطْ، لَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ الْآخَرِ مَجَازًا، إِذْ بِنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ فِي طُرُقِ الْمُسَافِرِينَ يُحَوِّطُونَهَا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَهِيَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَبَعْضُهَا لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ قَدَرِ مَوْضِعِ السُّجُودِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ نَحْو حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَزَادَ: قُلْتُ: وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي فِي الطُّرُقِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلِلطَّبَرانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِرْصَافَةَ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ) أَيْ: شَيْخَهُ عَاصِمًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ) أَيْ: يَطْلُبُ بِهِ رِضَا اللَّهِ وَالْمَعْنَى بِذَلِكَ: الْإِخْلَاصُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَجْزِمْ بِهَا بُكَيْرٌ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَرَهَا إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ هَكَذَا، وَكَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ بِلَفْظِهَا، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ رَوَى حَدِيثَ عُثْمَانَ مِنْ جَمِيعِ الطُّرُقِ إِلَيْهِ لَفْظُهُمْ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، فَكَأَنَّ بُكَيْرًا نَسِيَهَا فَذَكَرَهَا بِالْمَعْنَى مُتَرَدِّدًا فِي اللَّفْظِ الَّذِي ظَنَّهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: لِلَّهِ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ.
فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَنْ كَتَبَ اسْمَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي يَبْنِيهِ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْإِخْلَاصِ. انْتَهَى. وَمَنْ بَنَاهُ بِالْأُجْرَةِ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الْوَعْدُ الْمَخْصُوصُ لِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ وَإِنْ كَانَ يُؤَجَّرُ فِي الْجُمْلَةِ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةً الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ الْمُحْتَسِبَ فِي صَنْعَتِهِ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَالْمُمِدَّ بِهِ، فَقَوْلُهُ: الْمُحْتَسِبَ فِي صَنْعَتِهِ أَيْ: مَنْ يَقْصِدُ بِذَلِكَ إِعَانَةَ الْمُجَاهِدِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا بِذَلِكَ أَوْ بِأُجْرَةٍ، لَكِنَّ الْإِخْلَاصَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْمُتَطَوِّعِ، وَهَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ لِمَنْ جَعَلَ بُقْعَةً مِنَ الْأَرْضِ مَسْجِدًا بِأَنْ يَكْتَفِيَ بِتَحْوِيطِهَا مِنْ غَيْرِ بَنَاءٍ، وَكَذَا مَنْ عَمَدَ إِلَى بِنَاءٍ كَانَ يَمْلِكُهُ فَوَقَفَهُ مَسْجِدًا؟ إِنْ وَقَفْنَا مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَلَا، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى الْمَعْنَى فَنَعَمْ وَهُوَ الْمُتَّجِهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: بَنَى حَقِيقَةً فِي الْمُبَاشِرِ بِشَرْطِهَا،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute