كَانَ لَا يُصَلِّي فِي الْفَضَاءِ إِلَّا وَالْعَنَزَةُ أَمَامَهُ، ثُمَّ أَيَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي جُحَيْفَةَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَرْبَةِ: وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ تَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي كَلَامِهِ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ أَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ) أَيْ: قَارَبْتُهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الِاخْتِلَافَ فِي قَدْرِ عُمْرِهِ فِي بَابِ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ مِنْ كِتَابِ فَضِيلَةِ الْقُرْآنِ، وَفِي بَابِ الِاخْتِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ. وَتَوْجِيهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَانِ الرَّاجِحِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَوْلُهُ: (يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى) كَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِعَرَفَةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدُّدِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، فَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِعَرَفَةَ شَاذٌّ.
وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوِ الْفَتْحِ، وَهَذَا الشَّكُّ مِنْ مَعْمَرٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
قَوْلُهُ: (بَعْضُ الصَّفِّ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَجِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ: حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ. انْتَهَى. وَهُوَ يُعَيِّنُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِتَرْكِ إِعَادَتِهِمْ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ أَكْثَرُ فَائِدَةً.
قُلْتُ: وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ تَرْكَ الْإِعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا فَقَطْ لَا عَلَى جَوَازِ الْمُرُورِ، وَتَرْكُ الْإِنْكَارِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُرُورِ وَصِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعًا. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ حُجَّةٌ عَلَى الْجَوَازِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الْمَوَانِعِ مِنَ الْإِنْكَارِ وَثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِمَّا ذُكِرَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ حَائِلًا دُونَ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَرَى فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَرَائِهِ كَمَا يَرَى مَنْ أَمَامَهُ، وَتُقَدِّمُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَائِلٌ دُونَ الرُّؤْيَةِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ تَوَفُّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى سُؤَالِهِ ﷺ عَمَّا يَحْدُثُ لَهُمْ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مُرُورِ الْحِمَارِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كَوْنِ مُرُورِ الْحِمَارِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَكَذَا مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُرُورَ الْحِمَارِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَالِ مُرُورِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ لِكَوْنِ الْإِمَامِ سُتْرَةً لِمَنْ خَلْفَهُ، وَأَمَّا مُرُورُهُ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا يَخُصُّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَلَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَا نَقَلَ عِيَاضٌ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومِينَ يُصَلُّونَ إِلَى سُتْرَةٍ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ سُتْرَتُهُمْ سُتْرَةُ الْإِمَامِ أَمْ سُتْرَتُهُمُ الْإِمَامُ نَفْسُهُ اهـ. فِيهِ نَظَرٌ، لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ الصَّحَابِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ، فَمَرَّتْ حَمِيرٌ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ فَأَعَادَ بِهِمُ الصَّلَاةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّهَا لَمْ تَقْطَعْ صَلَاتِي وَلَكِنْ قَطَعَتْ صَلَاتَكُمْ، فَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى مَا نُقِلَ مِنَ الِاتِّفَاقِ.
وَلَفْظُ تَرْجَمَةِ الْبَابِ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ سُوَيْدٌ، عَنْ عَاصِمٍ اهـ. وَسُوَيْدٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَوَرَدَتْ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ مَوْقُوفٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ الَّذِي نَقَلَهُ عِيَاضٌ فِيمَا لَوْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ أَحَدٌ، فَعَلَى قَوْلِ