للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبُو جُهَيْمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَسْأَلُهُ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَقْلُوبًا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: سُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَقَالَ: هُوَ خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ: أَرْسَلَنِي زَيْدٌ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ. وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَطَّانِ فَقَالَ: لَيْسَ خَطَأُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ بِمُتَعَيِّنٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو جُهَيْمٍ بَعَثَ بُسْرًا إِلَى زَيْدٍ، وَبَعَثَهُ زَيْدٌ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْتَثْبِتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عِنْدَ الْآخَرِ.

قُلْتُ: تَعْلِيلُ الْأَئِمَّةِ لِلْأَحَادِيثِ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِذَا قَالُوا أَخْطَأَ فُلَانٌ فِي كَذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ خَطَؤُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ رَاجِحُ الِاحْتِمَالِ فَيُعْتَمَدُ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اشْتَرَطُوا انْتِفَاءَ الشَّاذِّ، وَهُوَ مَا يُخَالِفُ الثِّقَةَ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ فِي حَدِّ الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي) أَيْ أَمَامَهُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَعَبَّرَ بِالْيَدَيْنِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ الشُّغْلِ يَقَعُ بِهِمَا، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ فَقِيلَ: إِذَا مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِقْدَارِ سُجُودِهِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَقِيلَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَدْرِ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ.

قَوْلُهُ: (مَاذَا عَلَيْهِ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: مِنَ الْإِثْمِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ بِدُونِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ بَاقِي السِّتَّةِ وَأَصْحَابُ الْمَسَانِيدِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ بِدُونِهَا، وَلَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ مُطْلَقًا. لَكِنْ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: يَعْنِي مِنَ الْإِثْمِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ذُكِرَتْ فِي أَصْلِ الْبُخَارِيِّ حَاشِيَةٌ، فَظَنَّهَا الْكُشْمِيهَنِيُّ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا مِنَ الْحُفَّاظِ بَلْ كَانَ رَاوِيَةً. وَقَدْ عَزَاهَا الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ لِلْبُخَارِيِّ وَأَطْلَقَ، فَعَيَّبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِ الْعُمْدَةِ فِي إِيهَامِهِ أَنَّهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُشْكِلِ الْوَسِيطِ عَلَى مَنْ أَثْبَتَهَا فِي الْخَبَرِ، فَقَالَ: لَفْظُ الْإِثْمِ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ صَرِيحًا. وَلَمَّا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ دُونَهَا قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا فِي الْأَرْبَعِينَ لِعَبْدِ الْقَادِرِ الْهَرَوِيِّ: مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ.

قَوْلُهُ: (لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ) يَعْنِي: أَنَّ الْمَارَّ لَوْ عَلِمَ مِقْدَارَ الْإِثْمِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ مُرُورِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لَاخْتَارَ أَنْ يَقِفَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ ذَلِكَ الْإِثْمُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جَوَابُ لَوْ لَيْسَ هُوَ الْمَذْكُورَ، بَلِ التَّقْدِيرُ: لَوْ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ لَوَقَفَ أَرْبَعِينَ وَلَوْ وَقَفَ أَرْبَعِينَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مُتَعَيِّنًا، قَالَ: وَأُبْهِمُ الْمَعْدُودُ تَفْخِيمًا لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمًا.

قُلْتُ: ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ عُيِّنَ الْمَعْدُودُ، وَلَكِنْ شَكَّ الرَّاوِي فِيهِ، ثُمَّ أَبْدَى الْكِرْمَانِيُّ لِتَخْصِيصِ الْأَرْبَعِينَ بِالذِّكْرِ حِكْمَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: كَوْنُ الْأَرْبَعَةِ أَصْلَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ فَلَمَّا أُرِيدُ التَّكْثِيرُ ضُرِبَتْ فِي عَشَرَةٍ.

ثَانِيَتُهُمَا: كَوْنُ كَمَالِ أَطْوَارِ الْإِنْسَانِ بِأَرْبَعِينَ كَالنُّطْفَةِ وَالْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ، وَكَذَا بُلُوغُ الْأَشُدِّ. وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ اهـ. وَفِي ابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَكَانَ أَنْ يَقِفَ مِائَةَ عَامٍ خَيْرًا لَهُ مِنَ الْخُطْوَةِ الَّتِي خَطَاهَا. وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْأَرْبَعِينَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ لَا لِخُصُوصِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ.

وَجَنَحَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِائَةِ وَقَعَ بَعْدَ التَّقْيِيدِ بِالْأَرْبَعِينَ زِيَادَةً فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ عَلَى الْمَارِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقَعَا مَعًا إِذِ الْمِائَةُ أَكْثَرُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْمَقَامُ مَقَامُ زَجْرٍ وَتَخْوِيفٍ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمِائَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، بَلِ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ. وَمُمَيَّزُ الْأَرْبَعِينَ إِنْ كَانَ هُوَ السَّنَةَ ثَبَتَ الْمُدَّعَى، وَأَمَّا دُونُهَا فَمِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَطَّانِ: لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبَدَةَ الضَّبِّيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ الْجَزْمَ فِي طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَالشَّكَّ فِي طَرِيقِ غَيْرِهِ دَالًّا عَلَى التَّعَدُّدِ، لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا، وَزَادَ فِيهِ أَوْ سَاعَةً فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْجَزْمُ وَالشَّكُّ وَقَعَا مَعًا مِنْ رَاوٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُ تَذَكَّرَ فِي الْحَالِ فَجَزَمَ، وَفِيهِ مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (خَيْرًا لَهُ) كَذَا