زَائِدًا عَنْ وَقْتِ الْإِبْرَادِ وَهُوَ زَوَالُ حَرِّ الرَّمْضَاءِ، وَذَلِكَ قَدْ يَسْتَلْزِمُ خُرُوجَ الْوَقْتِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُمْ، أَوْ هُوَ مَنْسُوخٌ بِأَحَادِيثِ الْإِبْرَادِ فَإِنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الظُهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ حَدِيثٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَنَقَلَ الْخَلَّالُ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ الْإِبْرَادَ رُخْصَةٌ وَالتَّعْجِيلَ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ أَمْرُ إِرْشَادٍ، وَعَكَسَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْإِبْرَادُ أَفْضَلُ. وَحَدِيثُ خَبَّابٍ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَهُوَ الصَّارِفُ لِلْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ. كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّأْخِيرِ.
وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِ خَبَّابٍ: فَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ فَلَمْ يُحْوِجْنَا إِلَى شَكْوَى، بَلْ أَذِنَ لَنَا فِي الْإِبْرَادِ، حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ فِي الْخَبَرِ زِيَادَةً رَوَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلَمْ يُشْكِنَا وَقَالَ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا وَأَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ كَمَا قَالَ الْمَازِرِيُّ الْأَوَّلُ، وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَادِيثِ أَوَّلِ الْوَقْتِ أَنَّهَا عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْإِبْرَادِ خَاصٌّ فَهُوَ مُقَدَّمٌ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ قَالَ التَّعْجِيلُ أَكْثَرُ مَشَقَّةً فَيَكُونُ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْأَشَقِّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْأَخَفُّ أَفْضَلَ كَمَا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ.
قَوْله (بِالصَّلَاةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَقِيلَ زَائِدَةٌ. وَمَعْنَى أَبْرِدُوا: أَخِّرُوا عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ أَيْ أَخِّرُوا الصَّلَاةَ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فَقِيلَ زَائِدَةٌ أَيْضًا أَوْ عَنْ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَوْ هِيَ لِلْمُجَاوَزَةِ أَيْ تَجَاوَزُوا وَقْتَهَا الْمُعْتَادَ إِلَى أَنْ تَنْكَسِرَ شِدَّةُ الْحَرِّ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الظُهْرُ؛ لِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الَّتِي يَشْتَدُّ الْحَرُّ غَالِبًا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ الْبَابِ، فَلِهَذَا حَمَلَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةَ عَلَى عُمُومِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ يَعُمُّ، فَقَالَ بِهِ أَشْهَبُ فِي الْعَصْرِ، وَقَالَ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الشِّتَاءِ حَيْثُ قَالَ: تُؤَخَّرُ فِي الصَّيْفِ دُونَ الشِّتَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِهِ فِي الْمَغْرِبِ وَلَا فِي الصُّبْحِ لِضِيقِ وَقْتِهِمَا.
قَوْله (فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ) تَعْلِيلٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ التَّأْخِيرِ الْمَذْكُورِ، وَهَلِ الْحِكْمَةُ فِيهِ دَفْعُ الْمَشَقَّةِ لِكَوْنِهَا قَدْ تَسْلُبُ الْخُشُوعَ؟ وَهَذَا أَظْهَرُ، أَوْ كَوْنِهَا الْحَالَةَ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا الْعَذَابُ؟ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ: أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ؛ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُسَجَّرُ فِيهَا جَهَنَّمُ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ هَذَا بِأَنَّ الصَّلَاةَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ فَفِعْلَهَا مَظِنَّةٌ لِطَرْدِ الْعَذَابِ. فَكَيْفَ أَمَرَ بِتَرْكِهَا؟ وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمَرِيُّ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ إِذَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَاهُ، وَاسْتَنْبَطَ لَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَعْنًى يُنَاسِبُهُ فَقَالَ: وَقْتُ ظُهُورِ أَثَرِ الْغَضَبِ لَا يُنْجَعُ فِيهِ الطَّلَبُ إِلَّا مِمَّنْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ كَوْنِهَا طَلَبًا وَدُعَاءً فَنَاسَبَ الِاقْتِصَارَ عَنْهَا حِينَئِذٍ. وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ حَيْثُ اعْتَذَرَ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ لِلْأُمَمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، سِوَى نَبِيِّنَا ﷺ فَلَمْ يَعْتَذِرْ بَلْ طَلَبَ؛ لِكَوْنِهِ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: سَجْرُ جَهَنَّمَ سَبَبُ فَيْحِهَا، وَفَيْحُهَا سَبَبُ وُجُودِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ سَلْبِ الْخُشُوعِ، فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُصَلَّى فِيهَا. لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ سَجْرَهَا مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَالْإِبْرَادُ مُخْتَصٌّ بِشِدَّةِ الْحَرِّ فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَحِكْمَةُ الْإِبْرَادِ دَفْعُ الْمَشَقَّةِ، وَحِكْمَةُ التَّرْكِ وَقْتَ سَجْرِهَا لِكَوْنِهِ وَقْتَ ظُهُورِ أَثَرِ الْغَضَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله (مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) أَيْ مِنْ سَعَةِ انْتِشَارِهَا وَتَنَفُّسِهَا، وَمِنْهُ مَكَانٌ أَفْيَحُ أَيْ مُتَّسِعٌ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ اسْتِعَارِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَثَارَ وَهَجِ الْحَرِّ فِي الْأَرْضِ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ حَقِيقَةٌ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُ نَارُ جَهَنَّمَ فِي الْحَرِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي: اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute