(إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) ظَاهِرُهُ أَنَّ بَقَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَعَ فِي زَمَانِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادُ قَطْعًا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ نِسْبَةَ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى مُدَّةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ مِثْلُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى بَقِيَّةِ النَّهَارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَلَفَ إِلَخْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي بِمَعْنَى إِلَى، وَحُذِفَ الْمُضَافُ وَهُوَ لَفْظُ نِسْبَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ وَكَذَا حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْآتِي بَعْدَهُ فِي أَبْوَابِ الْإِجَارَةِ، وَيَقَعُ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ مُطَابَقَتِهِمَا لِلتَّرْجَمَةِ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا كَالشَّرْحِ وَالْبَيَانِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيرِ مُدَّةِ الزَّمَانَيْنِ، وَقَدْ زَادَ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ هُنَا وَأَنَّ مَثَلَكُمْ وَمَثَلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَخْ وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ.
قَوْله: (قِيرَاطًا قِيرَاطًا) كَرَّرَ قِيرَاطًا لِيَدُلَّ عَلَى تَقْسِيمِ الْقَرَارِيطِ عَلَى الْعُمَّالِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادَتْ تَقْسِيمَ الشَّيْءِ عَلَى مُتَعَدِّدٍ كَرَّرَتْهُ كَمَا يُقَالُ: اقْسِمْ هَذَا الْمَالَ عَلَى بَنِي فُلَانٍ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمٌ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (عَجَزُوا) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا فَلَا يُوصَفُ بِالْعَجْزِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فَكَيْفَ يُعْطَى الْقِيرَاطُ مَنْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِكُفْرِهِ؟ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ التِّينِ قَائِلًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا قَبْلَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَعَبَّرَ بِالْعَجْزِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْتَوْفُوا عَمَلَ النَّهَارِ كُلِّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَوْفَوْا عَمَلَ مَا قُدِّرَ لَهُمْ، فَقَوْلُهُ: عَجَزُوا أَيْ عَنْ إِحْرَازِ الْأَجْرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، لَكِنْ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ﷺ وَآمَنَ بِهِ أُعْطِيَ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ كَمَا سَبَقَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ مَا مَعْنَاهُ: أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِ الْبَعْضِ أَجْرَ الْكُلِّ، مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ أَجْرَ النَّهَارِ كُلِّهِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَنْ يُعْطَى أَجْرَ الصَّلَاةِ كُلِّهَا وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ إِلَّا رَكْعَةً، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُطَابَقَةُ الْحَدِيثَيْنِ لِلتَّرْجَمَةِ.
قُلْتُ: وَتَكْمِلَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فَضْلَ اللَّهِ الَّذِي أَقَامَ بِهِ عَمَلُ رُبْعِ النَّهَارِ مُقَامَ عَمَلِ النَّهَارِ كُلِّهِ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَقُومَ إِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَصْرُ مَقَامَ إِدْرَاكِ الْأَرْبَعِ فِي الْوَقْتِ، فَاشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا رُبْعَ الْعَمَلِ، وَحَصَلَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ الْجَوَابُ عَمَّنِ اسْتَشْكَلَ وُقُوعَ الْجَمِيعِ أَدَاءً مَعَ أَنَّ الْأَكْثَرَ إِنَّمَا وَقَعَ خَارِجَ الْوَقْتِ، فَيُقَالُ فِي هَذَا مَا أُجِيبَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾
وَقَدِ اسْتَبْعَدَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ كَلَامَ الْمُهَلَّبِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ مُنْفَكٌّ عَنْ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَمِلَتْ آخِرَ النَّهَارِ فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَهَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا. ثُمَّ هُوَ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ صِيَامَ آخِرِ النَّهَارِ لَا يُجْزِئُ عَنْ جُمْلَتِهِ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ. قُلْتُ: فَاسْتَبْعَدَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُهَلَّبِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ إِيقَاعَ الْعِبَادَةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ إِيقَاعِهَا فِي أَوَّلِهِ. وَأَمَّا إِجْزَاءُ عَمَلِ الْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ فَمِنْ قَبِيلِ الْفَضْلِ، فَهُوَ كَالْخُصُوصِيَّةِ سَوَاءٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ وَقْتَ الْعَمَلِ مُمْتَدٌّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَقْرَبُ الْأَعْمَالِ الْمَشْهُورَةِ بِهَذَا الْوَقْتِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، قَالَ: فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِشَارَةِ لَا مِنْ صَرِيحِ الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مِثَالٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَمَلُ الْخَاصُّ بِهَذَا الْوَقْتِ، بَلْ هُوَ شَامِلٌ لِسَائِرِ الْأَعْمَالِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي بَقِيَّةِ الْإِمْهَالِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُؤْخَذُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ.
قُلْتُ: وَمَا أَبْدَاهُ مُنَاسِبٌ لِإِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ أَوْقَاتِ الْعَصْرِ لَا لِخُصُوصِ التَّرْجَمَةِ وَهِيَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute