عَنْ عُمُومَتِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ.
قَوْله: (بَلْ بُوقًا) أَيْ بَلِ اتَّخِذُوا بُوقًا، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَلْ قَرْنًا وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ. وَالْبُوقُ وَالْقَرْنُ مَعْرُوفَانِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ فَيَجْتَمِعُونَ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِهِ، وَهُوَ مِنْ شِعَارِ الْيَهُودِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الشَّبُّورُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ الثَّقِيلَةِ.
قَوْله: (فَقَالَ عُمَرُ أَوَلَا) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَمْزَةُ إِنْكَارٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيِ الْمُقَدَّرَةِ وَتَقْرِيرٌ لِلْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ.
قَوْلُهُ: (رَجُلًا) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ مِنْكُمْ.
قَوْله: (يُنَادَى) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ لَمَّا أَخْبَرَ بِرُؤْيَاهُ وَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَادَرَ عُمَرُ فَقَالَ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي - أَيْ يُؤَذِّنُ - لِلرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ قُمْ يَا بِلَالُ فَعَلَى هَذَا فَالْفَاءُ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هِيَ الْفَصِيحَةُ، وَالتَّقْدِيرُ فَافْتَرَقُوا فَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَصَّ عَلَيْهِ فَصَدَّقَهُ فَقَالَ عُمَرُ. قُلْتُ: وَسِيَاقُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لَهُ أَلْقِهَا عَلَى بِلَالٍ فَلْيُؤَذِّنْ بِهَا، قَالَ فَسَمِعَ عُمَرُ الصَّوْتَ فَخَرَجَ فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا لَمَّا قَصَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رُؤْيَاهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِشَارَةَ عُمَرَ بِإِرْسَالِ رَجُلٍ يُنَادِي لِلصَّلَاةِ كَانَتْ عَقِبَ الْمُشَاوَرَةِ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ، وَأَنَّ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَتِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالُوا: اهْتَمَّ النَّبِيُّ ﷺ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا، فَقَالَ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ ذَكَرُوا الْقُنْعَ - بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ النُّونِ يَعْنِي الْبُوقَ - وَذَكَرُوا النَّاقُوسَ، فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ مُهْتَمٌّ فَأُرِيَ الْأَذَانَ، فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنَا؟ قَالَ: سَبَقَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا بِلَالُ قُمْ فَانْظُرْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَافْعَلْهُ تَرْجَمَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ بَدْءُ الْأَذَانِ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ مُتَقَارِبَةٍ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ حِسَانٍ وَهَذَا أَحْسَنُهَا.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُخَالِفُهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا قَصَّ مَنَامَهُ فَسَمِعَ عُمَرُ الْأَذَانَ فَجَاءَ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ عَقِبَ إِخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بَلْ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ لِقَوْلِهِ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنَا أَيْ عَقِبَ إِخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ فَاعْتَذَرَ بِالِاسْتِحْيَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُمَيْرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ قَصِّ عَبْدِ اللَّهِ رُؤْيَاهُ، بِخِلَافِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ بِهَا فَسَمِعَ عُمَرُ الصَّوْتَ فَخَرَجَ فَقَالَ: فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ قَصِّ عَبْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ الْإِعْلَامُ الْمَحْضُ بِحُضُورِ وَقْتِهَا لَا خُصُوصُ الْأَذَانِ الْمَشْرُوعِ. وَأَغْرَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فَحَمَلَ قَوْلَهُ: أَذِّنْ عَلَى الْأَذَانِ الْمَشْرُوعِ، وَطَعَنَ فِي صِحَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ: عَجَبًا لِأَبِي عِيسَى كَيْفَ صَحَّحَهُ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ شَرْعَ الْأَذَانِ إِنَّمَا كَانَ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. انْتَهَى. وَلَا تُدْفَعُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمِثْلِ هَذَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
قَوْله: (يَا بِلَالُ قُمْ) قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: فِيهِ حُجَّةٌ لِشَرْعِ الْأَذَانِ قَائِمًا.
قُلْتُ: وَكَذَا احْتَجَّ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قُمْ أَيِ اذْهَبْ إِلَى مَوْضِعٍ بَارِزٍ فَنَادِ فِيهِ بِالصَّلَاةِ لِيَسْمَعَكَ النَّاسُ، قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْقِيَامِ فِي حَالِ الْأَذَانِ. انْتَهَى. وَمَا نَفَاهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ الصِّيغَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ أَرْجَحَ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ أَنَّ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَنَّ الْأَذَانَ قَاعِدًا لَا يَجُوزُ، إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ وَوَافَقَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَالِكِيِّ.