النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ اسْمَانِ، وَهُوَ قُرَشِيٌّ عَامِرِيٌّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَالْأَشْهَرُ فِي اسْمِ أَبِيهِ قَيْسُ بْنُ زَائِدَةَ. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْرِمُهُ وَيَسْتَخْلِفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَاسْتُشْهِدَ بِهَا، وَقِيلَ: رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ، وَهُوَ الْأَعْمَى الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ عَبَسَ، وَاسْمُ أُمِّهِ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّةُ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى فَكُنِّيَتْ أُمُّهُ أُمَّ مَكْتُومٍ لِانْكِتَامِ نُورِ بَصَرِهِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ عَمِيَ بَعْدَ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ (١).
قَوْلُهُ: (وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى) ظَاهِرُهُ أَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي لَكِنْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْقَعْنَبِيِّ فَعَيَّنَا أَنَّهُ ابْنُ شِهَابٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ الثَّلَاثَةُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْخُزَاعِيُّ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ، وَتَمَّامٌ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، كُلُّهُمْ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ. وَعَلَى هَذَا فَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ إِدْرَاجٌ. وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ كَوْنُ ابْنِ شِهَابٍ قَالَهُ أَنْ يَكُونَ شَيْخُهُ قَالَهُ، وَكَذَا شَيْخُ شَيْخِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَاللَّيْثِ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَفِيهِ قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ فَفِي هَذَا أَنَّ شَيْخَ ابْنِ شِهَابٍ قَالَهُ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الصِّيَامِ عَنِ الْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَسَنَذْكُرُ لَفْظَهُ قَرِيبًا، فَثَبَتَتْ صِحَّةُ وَصْلِهِ. وَلِابْنِ شِهَابٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ لِابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ إِسْحَاقَ، مَعْمَرًا فِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: (أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) أَيْ دَخَلْتَ فِي الصَّبَاحِ، هَذَا ظَاهِرُهُ، وَاسْتُشْكِلَ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَذَانَهُ غَايَةً لِلْأَكْلِ، فَلَوْ لَمْ يُؤَذِّنْ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّبَاحِ لَلَزِمَ مِنْهُ جَوَازُ الْأَكْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ إِلَّا مَنْ شَذَّ كَالْأَعْمَشِ.
وَأَجَابَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْأَصِيلِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَارَبْتَ الصَّبَاحَ وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَلَمْ يَكُنْ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ حِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى بُزُوغِ الْفَجْرِ: أَذِّنْ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ الَّتِي فِي الصِّيَامِ حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَإِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّهُ أَبْلَغُ لِكَوْنِ جَمِيعِهِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ يُشْعِرُ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الصُّبْحِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِلَالٍ فَرْقٌ لِصِدْقِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَذَّنَ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ عِنْدِي فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّ أَذَانَهُ جُعِلَ عَلَامَةً لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ لَهُ مَنْ يُرَاعِي الْوَقْتَ بِحَيْثُ يَكُونُ أَذَانُهُ مُقَارِنًا لِابْتِدَاءِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْبُزُوغِ، وَعِنْدَ أَخْذِهِ فِي الْأَذَانِ يَعْتَرِضُ الْفَجْرُ فِي الْأُفُقِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِمْ: أَصْبَحْتَ أَيْ قَارَبْتَ الصَّبَاحَ وُقُوعُ أَذَانِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ يَقَعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ وَأَذَانُهُ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَبْعَدًا فِي الْعَادَةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ مِنْ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ ﷺ الْمُؤَيَّدِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو قُرَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا فِيهِ وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَتَوَخَّى الْفَجْرَ فَلَا يُخْطِئُهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْأَذَانِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَاسْتِحْبَابُ أَذَانِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ. وَأَمَّا
(١) هذا فيه نظر. لأن ظاهر القرآن يدل على أنه عمى قبل الهجرة، لأن سورة عبس، النازله فيه مكية، وقد وصفه الله بأنه أعمى. فتنبه
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute