للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فَظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا فَرْضَ عَيْنٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَمْ يُهَدَّدْ تَارِكُهَا بِالتَّحْرِيقِ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكَانَتْ قَائِمَةً بِالرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: التَّهْدِيدُ بِالتَّحْرِيقِ الْمَذْكُورِ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي حَقِّ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ كَمَشْرُوعِيَّةِ قِتَالِ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّحْرِيقَ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ أَخَصُّ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ، وَلِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ فِيمَا إِذَا تَمَالَأَ الْجَمِيعُ عَلَى التَّرْكِ، وَإِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ كَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَبَالَغَ دَاوُدُ وَمَنْ تَبِعَهُ فَجَعَلَهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، فَلَّمَا كَانَ الَهُمُ الْمَذْكُورُ دَالًّا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الْحُضُورُ، وَوُجُوبُ الْحُضُورِ دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الِاشْتِرَاطُ، ثَبَتَ الِاشْتِرَاطُ بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَسْلِيمِ أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ الْغَالِبُ. وَلَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنِ الشَّرْطِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ غَيْرُ شَرْطٍ. انْتَهَى.

وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَاقِينَ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ ظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا وَهُوَ ثَانِيهَا وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ الْوُجُوبُ حَسْبَمَا قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ عَدَمَ الْوُجُوبِ لِكَوْنِهِ ﷺ هَمَّ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْمُتَخَلِّفِينَ، فَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فَرْضَ عَيْنٍ مَا هَمَّ بِتَرْكِهَا إِذَا تَوَجَّهَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ يَجُوزُ تَرْكُهُ لِمَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ.

قُلْتُ: وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَدَارَكْهَا فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ. وَمِنْهَا وَهُوَ ثَالِثُهَا مَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَقَالَ حِينَ تَوَعَّدَ بِالْإِحْرَاقِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْبَيَانِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ الْبَيَانَ قَدْ يَكُونُ بِالتَّنْصِيصِ وَقَدْ يَكُونُ بِالدَّلَالَةِ، فَلَّمَا قَالَ ﷺ: لَقَدْ هَمَمْتُ إِلَخْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ وَهُوَ كَافٍ فِي الْبَيَانِ. وَمِنْهَا وَهُوَ رَابِعُهَا مَا قَالَ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ مَوَرِدَ الزَّجْرِ وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ. وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ وَعِيدُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ الَّتِي يُعَاقَبُ بِهَا الْكُفَّارُ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ عُقُوبَةِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنْعَ وَقَعَ بَعْدَ نَسْخِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ جَائِزًا بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي الْجِهَادِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ، ثُمَّ عَلَى نَسْخِهِ، فَحَمْلُ التَّهْدِيدِ عَلَى حَقِيقَتِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.

وَمِنْهَا وَهُوَ خَامِسُهَا كَوْنُهُ ﷺ تَرَكَ تَحْرِيقَهُمْ بَعْدَ التَّهْدِيدِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا عَفَا عَنْهُمْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ ﵇ هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، زَادَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ لَمَا تَرَكَهُمْ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ ﷺ لَا يَهِمُّ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ لَوْ فَعَلَهُ، وَأَمَّا التَّرْكُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا انْزَجَرُوا بِذَلِكَ وَتَرَكُوا التَّخَلُّفَ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِسَبَبِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بَيَانُ سَبَبِ التَّرْكِ وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَأَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحَرِّقُونَ الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا وَهُوَ سَادِسُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّهْدِيدِ قَوْمٌ تَرَكُوا الصَّلَاةَ رَأْسًا لَا مُجَرَّدَ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ أَيْ لَا يَحْضُرُونَ، وَفِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ فِي الْجَمِيعِ أَيْ فِي الْجَمَاعَةِ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مَرْفُوعًا: لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَأُحَرِّقَنَّ بُيُوتَهُمْ.

وَمِنْهَا وَهُوَ سَابِعُهَا: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْحَثِّ عَلَى مُخَالَفَةِ فِعْلِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ لَا لِخُصُوصِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ، أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، وَهُوَ