وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَرْكَ اتِّبَاعِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ غَيْرَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ مَظِنَّةُ الشُّغْلِ بِالتَّكَسُّبِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا الْعَصْرَانِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ وَقْتَ الرُّجُوعِ إِلَى الْبَيْتِ وَالْأَكْلِ وَلَا سِيَّمَا لِلصَّائِمِ مَعَ ضيق وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فَلَيْسَ لِلْمُتَخَلِّفِ عَنْهُمَا عُذْرٌ غَيْرُ الْكَسَلِ الْمَذْمُومِ، وَفِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْجَمَاعَةِ أَيْضًا انْتِظَامُ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْمُتَجَاوِرِينَ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَلِيَخْتِمُوا النَّهَارَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَفْتَتِحُوهُ كَذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ تَخْصِيصُ التَّهْدِيدِ بِمَنْ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ كَوْنِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ أَثْقَلُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ غَيْرِهِمَا.
وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِارْتِبَاطِ بَعْضِ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، وَاجْتَمَعَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْوُجُوبِ عَشَرَةُ أَجْوِبَةٍ لَا تُوجَدُ مَجْمُوعَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الشَّرْحِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ) فِي رِوَايَةِ السَّرَّاجِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ سَمِعَ الْأَعْرَجَ.
قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) هُوَ قَسَمٌ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا مَا يُقْسِمُ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَمْرَ نُفُوسِ الْعِبَادِ بِيَدِ اللَّهِ، أَيْ بِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ (١). وَفِيهِ جَوَازُ الْقَسَمِ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ هَمَمْتُ) اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْهَمُّ الْعَزْمُ وَقِيلَ دُونَهُ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ ﷺ فَقَدَ نَاسًا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ فَأَفَادَ ذِكْرَ سَبَبِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (بِحَطَبٍ لِيُحْطَبَ) كَذَا لِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِلَامِ التَّعْلِيلِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْبَاقِينَ فَيُحْطَبَ بِالْفَاءِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَمَعْنَى يُحْطَبُ يُكْسَرُ لِيَسْهُلَ اشْتِعَالُ النَّارِ بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ تَجَوُّزًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ) أَيْ آتِيهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: خَالَفَ إِلَى فُلَانٍ أَيْ أَتَاهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ، أَوِ الْمَعْنَى أُخَالِفُ الْفِعْلَ الَّذِي أَظْهَرْتُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَأَتْرُكُهُ وَأَسِيرُ إِلَيْهِمْ، أَوْ أُخَالِفُ ظَنَّهُمْ فِي أَنِّي مَشْغُولٌ بِالصَّلَاةِ عَنْ قَصْدِي إِلَيْهِمْ، أَوْ مَعْنَى أُخَالِفُ أَتَخَلَّفُ - أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ - إِلَى قَصْدِي الْمَذْكُورِينَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالرِّجَالِ يُخْرِجُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ.
قَوْلُهُ: (فَأُحَرِّقُ) بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ، يُقَالُ حَرَّقَهُ إِذَا بَالَغَ فِي تَحْرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَيْهِمْ) يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ تَحْرِيقُ الْمَقْصُودِينَ، وَالْبُيُوتُ تَبَعًا لِلْقَاطِنِينَ بِهَا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ فَأُحَرِّقَ بُيُوتًا عَلَى مَنْ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ إِعَادَةُ الْيَمِينِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ.
قَوْلُهُ: (عَرْقًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، قَالَ الْخَلِيلُ: الْعُرَاقُ الْعَظْمُ بِلَا لَحْمٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ فَهُوَ عَرْقٌ، وَفِي الْمحكمِ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: الْعَرْقُ بِسُكُونِ الرَّاءِ قِطْعَةُ لَحْمٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَرْقُ وَاحِدُ الْعِرَاقِ، وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا هُبَرُ اللَّحْمِ، وَيَبْقَى عَلَيْهَا لَحْمٌ رَقِيقٌ فَيُكْسَرُ وَيُطْبَخُ وَيُؤْكَلُ مَا عَلَى الْعِظَامِ مِنْ لَحْمٍ دَقِيقٍ وَيَتَشَمَّسُ الْعِظَامَ، يُقَالُ عَرِقْتُ اللَّحْمَ وَاعْتَرَقْتُهُ وَتَعَرَّقْتُهُ: إِذَا أَخَذْتُ اللَّحْمَ مِنْهُ نَهْشًا، وَفِي الْمُحْكَمِ: جَمْعُ الْعَرْقِ عَلَى عُرَاقٍ بِالضَّمِّ عَزِيزٌ، وَقَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ هُوَ اللَّائِقُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (أَوْ مِرْمَاتَيْنِ) تَثْنِيَةُ مِرْمَاةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَحُكِيَ الْفَتْحُ، قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ مَا بَيْنَ ظِلْفَيِ الشَّاةِ، وَحَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ. وَنَقَلَهُ الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَتِهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ قَالَ: قَالَ يُونُسُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْبُخَارِيِّ: الْمِرْمَاةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلُ مِسْنَاةٍ وَمِيضَاةٍ مَا بَيْنَ ظِلْفَيِ الشَّاةِ مِنَ اللَّحْمِ، قَالَ عِيَاضٌ فَالْمِيمُ عَلَى هَذَا أَصْلِيَّةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمِرْمَاةُ لُعْبَةٌ كَانُوا يَلْعَبُونَهَا بِنِصَالٍ مَحْدُودَةٍ يَرْمُونَهَا فِي كَوْمٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَيُّهُمْ أَثْبَتَهَا فِي الْكَوْمِ غَلَبَ، وَهِيَ الْمِرْمَاةُ وَالْمِدْحَاةُ.
قُلْتُ: وَيَبْعُدُ أَنْ
(١) وذلك لأنه سبحانه مالكها والمتصرف فيها. وفى ذلك من الفوائد مع ما ذكر إثبات اليد لله سبحانه على الوجه الذى يليق به، كالقول فى سائر الصفات، وهو سبحانه منزه عن مشابهة المخلوقات فى كل شيء، موصوف بصفات الكمال اللائق به فتنبه.