يَكُونَ ﷺ سَمِعَ لَمَّا قَرُبَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْآيَةَ الَّتِي كَانَ انْتَهَى إِلَيْهَا خَاصَّةً، وَقَدْ كَانَ هُوَ ﷺ يُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا فِي الصَّلَاةِ السَّرِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا الصُّبْحُ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَغْرِبَ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوَفَاةِ مِنْ آخِرِ الْمَغَازِي، لَكِنْ وَجَدْتُ بَعْدُ فِي النَّسَائِيِّ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الَّتِي ذَكَرَتْهَا أُمُّ الْفَضْلِ كَانَتْ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ ﷺ لَمْ يُصَلِّ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ هَذِهِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا قَاعِدًا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا أَوَّلًا إِمَامًا ثُمَّ صَارَ مَأْمُومًا يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: وَهُوَ يَأْتَمُّ مِنَ الِائْتِمَامِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ اسْتِخْلَافَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ إِذَا اشْتَكَى أَوْلَى مِنْ صَلَاتِهِ بِهِمْ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ ﷺ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ وَلَمْ يُصَلِّ بِهِمْ قَاعِدًا غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ الْمَعْذُورِ بِمِثْلِهِ وَبِالْقَائِمِ أَيْضًا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مَرْفُوعًا: لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا، وَاعْتَرَضَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ مَنِ احْتَجَّ بِهَذَا أَنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَمِنْ رِوَايَةِ رَجُلٍ يَرْغَبُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، يَعْنِي جَابِرًا الْجُعْفِيَّ، وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْعَ الصَّلَاةَ بِالْجَالِسِ، أَيْ: يُعْرَبُ قَوْلُهُ: جَالِسًا، مَفْعُولًا لَا حَالًا. وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ أَمْرِهِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُمْ بِالْجُلُوسِ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَهُ قِيَامًا.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ لَوْ صَحَّ إِلَى تَارِيخٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ. لَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ تَقَوَّى بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، قَالَ: وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، لَكِنْ مُوَاظَبَتَهُمْ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ تَشْهَدُ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عَدَمَ النَّقْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ، ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا اكْتَفَوْا بِاسْتِخْلَافِ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ بِالْقَائِمِ مَرْجُوحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاةِ الْقَائِمِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا كَافٍ فِي بَيَانِ سَبَبِ تَرْكِهِمُ الْإِمَامَةَ مِنْ قُعُودٍ، وَاحْتُجَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ ﷺ إِنَّمَا صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْأَئِمَّةَ شُفَعَاءُ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ شَافِعًا لَهُ، وَتُعُقِّبَ بِصَلَاتِهِ ﷺ خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِلَا خِلَافٍ.
وَصَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ عُمْدَةَ مَالِكٍ فِي مَنْعِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ قَوْلُ رَبِيعَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ مَأْمُومًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنْكَارُهُ أَنْ يَكُونَ ﷺ أَمَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَاعِدًا كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، فَكَيْفَ يَدَّعِي أَصْحَابُهُ عَدَمَ تَصْوِيرِ أَنَّهُ صَلَّى مَأْمُومًا؟ وَكَأَنَّ حَدِيثَ إِمَامَتِهِ الْمَذْكُورَ لَمَّا كَانَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ رَدُّهُ سَلَكُوا فِي الِانْتِصَارِ وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْعِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ الْإِمَامَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ الْأَئِمَّةِ شُفَعَاءَ، أَيْ فِي حَقِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّفَاعَةِ. ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، وَقَدْ أَمَّ قَاعِدًا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ ﷺ مِنْهُمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَجَابِرٌ، وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالْأَسَانِيدُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ، بَلِ ادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ: لَا جَوَابَ لِأَصْحَابِنَا عَنْ حَدِيثِ مَرَضِ النَّبِيِّ ﷺ يَخْلُصُ عِنْدَ السَّبْكِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. قَالَ: إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَشْيَاخِ يَقُولُ: الْحَالُ أَحَدُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute