هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِسَمَاعِهِ فِيهِ فَانْتَفَتْ تُهْمَةُ تَدْلِيسِهِ، فَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْدُودٌ، وَتَعْلِيلُ الطَّحَاوِيِّ لَهُ بِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ سَاقَهُ عَنْ عَمْرٍو أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَسَنُّ وَأَجَلُّ مِنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَأَقْدَمُ أَخْذًا عَنْ عَمْرٍو مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهِيَ زِيَادَةٌ مِنْ ثِقَةٍ حَافِظٍ، لَيْسَتْ مُنَافِيَةً لِرِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ وَلَا أَكْثَرُ عَدَدًا، فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّتِهَا.
وَأَمَّا رَدُّ الطَّحَاوِيِّ لَهَا بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ مُدْرَجَةٌ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِدْرَاجِ حَتَّى يَثْبُتَ التَّفْصِيلُ، فَمَهْمَا كَانَ مَضْمُومًا إِلَى الْحَدِيثِ فَهُوَ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْرَجَهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ مُتَابِعًا لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ، وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: هُوَ ظَنٌّ مِنْ جَابِرٍ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ جَابِرًا كَانَ مِمَّنْ يُصَلِّي مَعَ مُعَاذٍ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يُظَنُّ بِجَابِرٍ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ شَخْصٍ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُشَاهَدٍ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﷺ: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ النَّهْيُ عَنِ التَّلَبُّسِ بِصَلَاةٍ غَيْرِ الَّتِي أُقِيمَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنِيَّةِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ، وَلَوْ تَعَيَّنَتْ نِيَّةُ الْفَرِيضَةِ لَامْتَنَع عَلَى مُعَاذٍ أَنْ يُصَلِّيَ الثَّانِيَةَ بِقَوْمِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حِينَئِذٍ فَرْضًا لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنْ يَتْرُكَ فَضِيلَةَ الْفَرْضِ خَلْفَ أَفْضَلِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ تَرْجِيحٍ لَكِنْ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْفَضْلُ بِالِاتِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: إِنَّ الْعِشَاءَ فِي قَوْلِهِ: كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الْعِشَاءَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَفْرُوضَةِ، فَلَا يُقَالُ: كَانَ يَنْوِي بِهَا التَّطَوُّعَ؛ لِأَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَنْوِيَ بِهَا التَّنَفُّلَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّ الْمُخَالِفِينَ لَا يُجِيزُونَ لِمَنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ إِذَا أُقِيمَ أَنْ يُصَلِّيَهُ مُتَطَوِّعًا، فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَى مُعَاذٍ مَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ؟
فَهَذَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ نَقْضٌ قَوِيٌّ، وَأَسْلَمُ الْأَجْوِبَةِ التَّمَسُّكُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: لَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا تَقْرِيرِهِ. فَجَوَابُهُ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ رَأْيَ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ حُجَّةٌ، وَالْوَاقِعُ هُنَا كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ مُعَاذٌ كُلُّهمْ صَحَابَةٌ وَفِيهِمْ ثَلَاثُونَ عَقَبِيًّا وَأَرْبَعُونَ بَدْرِيًّا، قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، قَالَ: وَلَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ امْتِنَاعُ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ مَعَهُمْ بِالْجَوَازِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ سَلَّمْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتِ الْفَرِيضَةُ فِيهِ تُصَلَّى مَرَّتَيْنِ، أَيْ: فَيَكُونُ مَنْسُوخًا، فَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ وَهُوَ لَا يَسُوغُ، وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ إِعَادَةِ الْفَرِيضَةِ، اهـ.
وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى كِتَابِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ سَاقَ فِيهِ دَلِيلَ ذَلِكَ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: لَا تُصَلُّوا الصَّلَاةَ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلٍ: إِنَّ أَهْلَ الْعَالِيَةِ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ، فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ نَظَرٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُصَلُّوهَا مَرَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا النَّهْيُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَلَا يُقَالُ الْقِصَّةُ قَدِيمَةٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَانَتْ أُحُدٌ فِي أَوَاخِرِ الثَّالِثَةِ فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ فِي الْأُولَى وَالْإِذْنُ فِي الثَّالِثَةِ مَثَلًا، وَقَدْ قَالَ ﷺ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ: إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ؛ فَإِنَّهَا نَافِلَةٌ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute