بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ.
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْمَدِينَةَ … بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ قَدْ يَقَعُ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الْإِثْمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الشَّأْنُ وَالْحَالُ لَا مُجَرَّدُ الصِّيغَةِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ﷺ أَنْ يَأْثَمَ؛ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، وَإِنْكَارُ أَنَسٍ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ إِقَامَةِ الصُّفُوفِ، فَعَلَى هَذَا تَسْتَلْزِمُ الْمُخَالَفَةُ التَّأْثِيمَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ رَشِيدٍ مُلَخَّصًا. وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مَسْنُونٌ؛ لِأَنَّ التَّأْثِيمَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عَنْ تَرْكِ وَاجِبٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: إِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ لَمَّا كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا الَّتِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الْمَدْحَ عَلَيْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، فَهُوَ مُتَعَقَّبٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَمِّ تَارِكِ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ آثِمًا. سَلَّمْنَا، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ التَّعَقُّبُ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَخَذَ الْوُجُوبَ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ وَمِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَمِنْ وُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ، فَرَجَحَ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْقَرَائِنِ أَنَّ إِنْكَارَ أَنَسٍ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ قَدْ يَقَعُ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّسْوِيَةَ وَاجِبَةٌ فَصَلَاةُ مَنْ خَالَفَ وَلَمْ يُسَوِّ صَحِيحَةٌ لِاخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ أَنَسًا مَعَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ. وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَجَزَمَ بِالْبُطْلَانِ، وَنَازَعَ مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِمَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ قَدَمَ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ لِإِقَامَةِ الصَّفِّ، وَبِمَا صَحَّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: كَانَ بِلَالٌ يُسَوِّي مَنَاكِبنَا وَيَضْرِبُ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَا كَانَ عُمَرُ، وَبِلَالٌ يَضْرِبَانِ أَحَدًا عَلَى تَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ التَّعْزِيرَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: (بُشَيْرٌ) هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: (مَا أَنْكَرْتَ مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ عَهِدْتَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ) هُوَ أَبُو الرَّحَّالِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ أَخُو سَعِيدِ بْنِ عَبَيْدٍ رَاوِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَيْسَ لِعُقْبَةَ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ الْمُعَلَّقُ، وَأَرَادَ بِهِ بَيَانَ سَمَاعِ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ: حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: جَاءَ أَنَسٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقُلْنَا: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ مِنْكُمْ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ.
(تَنْبِيهٌ): هَذِهِ الْقَدْمَةُ لِأَنَسٍ غَيْرُ الْقَدْمَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَإ نَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ فِيهَا أَنَّهُ أَنْكَرَ تَأْخِيرَ الظُّهْرِ إِلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ كَمَا مَضَى، وَهَذَا الْإِنْكَارُ أَيْضًا غَيْرُ الْإِنْكَارِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ تَضْيِيعِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا حَيْثُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا الصَّلَاةَ وَقَدْ ضُيِّعَتْ فَإِنَّ ذَاكَ كَانَ بِالشَّامِ وَهَذَا بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْثَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالسُّنَنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute