قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ) كَانَ اللَّائِقُ إِيرَادَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَقَدْ سَبَقَ هُنَاكَ تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا وَذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِيهِ فِي صَلَاةِ أُمِّ سُلَيْمٍ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ إِلْحَاقًا لِلرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ مَسْبُوقًا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ، لَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ، وَأَقْدَمُ مَنْ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِهِ مِمَّنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَرْءِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِاتِّفَاقٍ مِمَّنْ يَقُولُ تُجْزِئُهُ أَوْ لَا تُجْزِئُهُ، وَصَلَاةُ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ امْرَأَةٌ أُخْرَى مَأْمُورٌ بِهَا بِاتِّفَاقٍ، فَكَيْفَ يُقَاسُ مَأْمُورٌ عَلَى مَنْهِيٍّ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ نَظَرَ إِلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْأَمْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَقَالَ نَاصِرُ الدِّينِ ابْنُ الْمُنِيرِ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِمَّا نُوزِعَ فِيهَا الْبُخَارِيُّ حَيْثُ لَمْ يَأْتِ: بِجَوَابِ إِذَا لِإِشْكَالِ الْحَدِيثِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَعُدْ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْلَمِ هُوَ زِيَادٌ) فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَفَّانَ عَنْ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ الْأَعْلَمُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزِيَادٌ هُوَ ابْنُ حَسَّانَ بْنُ قُرَّةَ الْبَاهِلِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، قِيلَ لَهُ الْأَعْلَمُ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْقُوقَ الشَّفَةِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) هُوَ الثَّقَفِيُّ، وَقَدْ أَعَلَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْحَسَنَ عَنْعَنَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنِ الْأَحْنَفِ عَنْهُ، وَرُدَّ هَذَا الْإِعْلَالُ بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنِ الْأَعْلَمِ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ حَدَّثَهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَانْطَلَقَ يَسْعَى وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْأَعْلَمِ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَيُّكُمْ دَخَلَ الصَّفَّ وَهُوَ رَاكِعٌ.
قَوْلُهُ: (زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا) أَيْ عَلَى الْخَيْرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: صَوَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِعْلَ أَبِي بَكْرَةَ مِنَ الْجِهَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ الْحِرْصُ عَلَى إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَخَطَّأَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَعُدْ) أَيْ إِلَى مَا صَنَعْتَ مِنَ السَّعْيِ الشَّدِيدِ ثُمَّ الرُّكُوعِ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مِنَ الْمَشْيِ إِلَى الصَّفِّ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ صَرِيحًا فِي طُرُقِ حَدِيثِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ مَنِ السَّاعِي. وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ عند الطَّبَرَانِيِّ: فَقَالَ أَيُّكُمْ صَاحِبُ هَذَا النَّفَسِ؟ قَالَ: خَشِيتُ أَنْ تَفُوتَنِي الرَّكْعَةُ مَعَكَ، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: أَيُّكُم الرَّاكِعُ دُونَ الصَّفِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَتِهِ قَرِيبًا: أَيُّكُمْ دَخَلَ الصَّفَّ وَهُوَ رَاكِعٌ وَتَمَسَّكَ الْمُهَلَّبُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ لَهُ لَا تَعُدْ لِأَنَّهُ مَثَّلَ بِنَفْسِهِ فِي مَشْيِهِ رَاكِعًا لِأَنَّهَا كَمِشْيَةِ الْبَهَائِمِ اهـ.
وَلَمْ يَنْحَصِرِ النَّهْيُ فِي ذَلِكَ كَمَا حَرَّرْتُهُ، وَلَوْ كَانَ مُنْحَصِرًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ فِي إِحْرَامِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ، وَذَهَبَ إِلَى تَحْرِيمِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ نَحْوُهُ وَزَادَ: لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ لِلِاسْتِحْبَابِ لِكَوْنِ أَبِي بَكْرَةَ أَتَى بِجُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْإِعَادَةِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ أُرْشِدَ إِلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِيمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَقَالَ: صَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَلَيْسَ لَهُ تَضْعِيفٌ،