نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ؛ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِي، فَقَالَ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ ﷺ أَوْ قَالَ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ ﷺ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ) ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَشْرَعُ فِي التَّكْبِيرِ أَوْ غَيْرِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْخَفْضِ أَوِ الرَّفْعِ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقِيَامِ إِلَى الثَّالِثَةِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فَرَوَى فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ فِي حَالِ قِيَامِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَنَّ التَّكْبِيرَ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ أَوْلَى، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا. وَوَجَّهَهُ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ بِأَنَّ تَكْبِيرَ الِافْتِتَاحِ يَقَعُ بَعْدَ الْقِيَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا نَظِيرَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ أَوَّلًا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ زِيدَتِ الرُّبَاعِيَّةُ، فَيَكُونُ افْتِتَاحُ الْمَزِيدِ كَافْتِتَاحِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ. وَكَانَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَسْتَحِبَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ حِينَئِذٍ لِتَكْمُلَ الْمُنَاسَبَةُ، وَلَا قَائِلَ مِنْهُمْ بِهِ (١).
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ) أَيِ الْخُدْرِيُّ بِالْمَدِينَةِ، وَبَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ سَبَبَ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: اشْتَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ - أَوْ غَابَ - فَصَلَّى أَبُو سَعِيدٍ، فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ افْتَتَحَ وَحِينَ رَكَعَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ أَيْضًا: فَلَمَّا انْصَرَفَ قِيلَ لَهُ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى صَلَاتِكَ، فَقَامَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُبَالِي اخْتَلَفَتْ صَلَاتُكُمْ أَمْ لَمْ تَخْتَلِفْ، إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ هَكَذَا يُصَلِّي. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ كَانَ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ وَالْإِسْرَارِ بِهِ، وَكَانَ مَرْوَانُ وَغَيْرُهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يُسِرُّونَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي إِمَارَةِ مَرْوَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا مَقْصُودُ الْبَابِ فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، وَلَا يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْمُوَطَّأِ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا يَقُولُ الْإِمَامُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ: وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ. فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِذَا شَرَعَ فِي الْقِيَامِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَجْرَى الْبُخَارِيُّ التَّرْجَمَةَ، وَأَثَرَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَجْرَى التَّبْيِينِ لِحَدِيثَيِ الْبَابِ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا صَرِيحَيْنِ فِي أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّكْبِيرِ يَكُونُ مَعَ أَوَّلِ النُّهُوضِ.
وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ تَرْجَمَ فِيمَا مَضَى بَابَ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِمَا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي حَالَةِ النُّهُوضِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَتْهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ، فَكَانَ ظَاهِرُهَا التَّكْرَارَ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ تُسَمَّى سَجْدَةً مَجَازًا، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ، ثُمَّ رَجَّحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ مَحَلِّ التَّكْبِيرِ حِينَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُ إِذَا قَعَدَ عَلَى الْوِتْرِ يَكُونُ تَكْبِيرُهُ فِي الرَّفْعِ إِلَى الْقُعُودِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْقُعُودِ، وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّرْجَمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ فِيهِمَا بَيَانُ الْجُلُوسِ، ثُمَّ بَيَانُ الِاعْتِمَادِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الثَّالِثَةِ مَحَلَّ التَّكْبِيرِ اهـ مُلَخَّصًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَيَشْمَلُ مَا قِيلَ أَوَّلًا وَثَانِيًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اشْتِمَالُ حَدِيثَيِ الْبَابِ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَحِينَ قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَيُمْكِنُ شُمُولُهُ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ النَّهْضَةَ تَحْتَمِلُهُمَا، لَكِنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْقِيَامِ أَكْثَرُ، وَهَذَا يُرَجِّحُ الْحَمْلَ الْأَوَّلَ
(١) يعني من المالكية. ولا ريب أن السنة في ذلك التكبير حين ينهض إلى الثالثة مع رفع اليدين كما ثبت ذلك من حديث ابن عمر وغيره. والله أعلم
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute