قَوْلُ الْبُخَارِيِّ اهـ.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فَقَدْ رَوَيْنَاهُ تَامًّا فِي مُسْنَدِ الْفِرْيَابِيِّ أَيْضًا بِسَنَدِهِ إِلَى مَكْحُولٍ، وَمِنْ طَرِيقَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الدَّلِيلَ إِذَا كَانَ عَامًّا وَعَمِلَ بِعُمُومِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رُجِّحَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ بِمُجَرَّدِهِ، وَعُرِفَ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُمِّ الدَّرْدَاءِ الصُّغْرَى التَّابِعِيَّةُ لَا الْكُبْرَى الصَّحَابِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الصُّغْرَى وَلَمْ يُدْرِكِ الْكُبْرَى، وَعَمَلُ التَّابِعِيِّ بِمُفْرَدِهِ وَلَوْ لَمْ يُخَالِفْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُورِدِ الْبُخَارِيُّ أَثَرَ أُمِّ الدَّرْدَاءِ لِيَحْتَجَّ بِهِ بَلْ لِلتَّقْوِيَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ سُمِّيَ بِاسْمِ أَبِيهِ وَكُنِّيَ بِكُنْيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَمَلَهُ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ، فَأَدْخَلَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى وَغَيْرُهُ عَنْهُ فِيهِ - بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَالِدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ، فَكَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ عَنْهُ، ثُمَّ لَقِيَهُ أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ مَعَهُ وَثَبَّتَهُ فِيهِ أَبُوهُ.
قَوْلُهُ: (وَتَثْنِي الْيُسْرَى) لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يَصْنَعُ بَعْدَ ثَنْيِهَا هَلْ يَجْلِسُ فَوْقَهَا أَوْ يَتَوَرَّكُ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَرَاهُمُ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ، فَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَثَنَى الْيُسْرَى وَجَلَسَ عَلَى وَرِكِهِ الْيُسْرَى وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَانِي هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَحَدَّثَنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. فَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ مَا أُجْمِلَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِتَصْرِيحِهِ فِيهَا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الرَّفْعِ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ قَدْ يُقَالُ إِنَّهَا لَا تُخَالِفُ حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ لِأَنَّ فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ جُلُوسَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ كَانَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ الْقَاسِمَ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَنْصِبَ الْيُمْنَى وَيَجْلِسَ عَلَى الْيُسْرَى. فَإِذَا حُمِلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ؛ انْتَفَى عَنْهُمَا التَّعَارُضُ وَوَافَقَ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ) أَيِ التَّرَبُّعُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتَلَفُوا فِي التَّرَبُّعِ فِي النَّافِلَةِ وَفِي الْفَرِيضَةِ لِلْمَرِيضِ، وَأَمَّا الصَّحِيحُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّرَبُّعُ فِي الْفَرِيضَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، كَذَا قَالَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَأَنْ أَقْعُدَ عَلَى رَضَفَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْعُدَ مُتَرَبِّعًا فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا يُشْعِرُ بِتَحْرِيمِهِ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ سُنَّةٌ، فَلَعَلَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ أَرَادَ بِنَفْيِ الْجَوَازِ إِثْبَاتَ الْكَرَاهَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رِجْلِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا ابْنُ التِّينِ أن رِجْلَايَ، وَوَجَّهَهَا عَلَى أَنَّ إِنَّ بِمَعْنَى نَعَمْ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ، فَقَالَ: رِجْلَايَ لَا تَحْمِلَانِي أَوْ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ، وَلَهَا وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الْأَوْجُهَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾
قَوْلُهُ: (لَا تَحْمِلَانِّي) بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُمَحِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ الْمَذْكُورُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْنَ اللَّيْثِ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى اثْنَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَاسِطَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ مِصْرِيٌّ مَعْرُوفٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَيَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفِيقُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ مَدَنِيٌّ سَكَنَ مِصْرَ، وَكُلُّ مَنْ فَوْقَهُمْ مَدَنِيٌّ أَيْضًا، فَالْإِسْنَادُ دَائِرٌ بَيْنَ مَدَنِيٍّ وَمِصْرِيٍّ. وَأَرْدَفَ الرِّوَايَةَ النَّازِلَةَ بِالرِّوَايَةِ الْعَالِيَةِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ لَهَا ضِدُّ ذَلِكَ لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ