للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

السَّلَفِ إِلَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّكْبِيرَ فِي الْعَسَاكِرِ عَقِبَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ تَكْبِيرًا عَالِيًا ثَلَاثًا، قَالَ: وَهُوَ قَدِيمٌ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ. قَالَ: وَفِي السِّيَاقِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَالَ. قُلْتُ: فِي التَّقْيِيدِ بِالصَّحَابَةِ نَظَرٌ، بَلْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَمَلَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُمْ جَهَرُوا بِهِ وَقْتًا يَسِيرًا لِأَجْلِ تَعْلِيمِ صِفَةِ الذِّكْرِ، لَا أَنَّهُمْ دَاوَمُوا عَلَى الْجَهْرِ بِهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ يُخْفِيَانِ الذِّكْرَ إِلَّا إِنِ احْتِيجَ إِلَى التَّعْلِيمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمُبْدَأِ بِهِ (١) كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَعْلَمُ) فِيهِ إِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا انْصَرَفُوا) أَيْ أَعْلَمُ انْصِرَافَهُمْ بِذَلِكَ أَيْ بِرَفْعِ الصَّوْتِ إِذَا سَمِعْتُهُ أَيِ الذِّكْرَ، وَالْمَعْنَى كُنْتُ أَعْلَمُ بِسَمَاعِ الذِّكْرِ انْصِرَافَهُمْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ بِالتَّكْبِيرِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَلَفْظُهُ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَاخْتُلِفَ فِي كَوْنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ذَلِكَ، فَقَالَ عِيَاضٌ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا مِمَّنْ لَا يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُلْزَمُ بِهِ، فَكَانَ يَعْرِفُ انْقِضَاءَ الصَّلَاةِ بِمَا ذَكَرَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا فِي أَوَاخِرِ الصُّفُوفِ فَكَانَ لَا يَعْرِفُ انْقِضَاءَهَا بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَعْرِفُهُ بِالتَّكْبِيرِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُبَلِّغٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ يُسْمِعُ مَنْ بَعُدَ.

قَوْلُهُ: (بِالتَّكْبِيرِ) هُوَ أَخَصُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ الذِّكْرَ أَعَمُّ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مُفَسِّرَةً لِذَلِكَ فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ أَيْ بِالتَّكْبِيرِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ الْمَذْكُورُ، وَثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ عَمْرٌو - يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ - وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي مَعْبَدٍ بَعْدُ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهَذَا. قَالَ عَمْرٌو: قَدْ أَخْبَرْتَنِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ كَأَنَّهُ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ بِهِ. انْتَهَى.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا كَانَ يَرَى صِحَّةَ الْحَدِيثِ وَلَوْ أَنْكَرَهُ رَاوِيهِ إِذَا كَانَ النَّاقِلُ عَنْهُ عَدْلًا، وَلِأَهْلِ الْحَدِيثِ فِيهِ تَفْصِيلٌ: قَالُوا إِمَّا أَنْ يَجْزِمَ بِرَدِّهِ أَوْ لَا، وَإِذَا جَزَمَ فَإِمَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِتَكْذِيبِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ بِالرَّدِّ كَأَنْ قَالَ لَا أَذْكُرُهُ؛ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عِنْدَهُمْ عَلَى قَبُولِهِ (٢)؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ ثِقَةٌ وَالْأَصْلَ لَمْ يَطْعَنْ فِيهِ، وَإِنْ جَزَمَ وَصَرَّحَ بِالتَّكْذِيبِ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عِنْدَهُمْ عَلَى رَدِّهِ لِأَنَّ جَزْمَ الْفَرْعِ بِكَوْنِ الْأَصْلِ حَدَّثَهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ الْأَصْلِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ جَزَمَ بِالرَّدِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّكْذِيبِ فَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ قَبُولُهُ. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَاخْتَلَفُوا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَى الْقَبُولِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لَا يُقْبَلُ قِيَاسًا عَلَى الشَّاهِدِ، وَلِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ وَزَادَ.

فَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ مُتَرَدِّدًا فِي سَمَاعِهِ وَالْأَصْلُ جَازِمًا بِعَدَمِهِ سَقَطَ لِوُجُودِ التَّعَارُضِ، وَمُحَصَّلُ كَلَامِهِ آنِفًا أَنَّهُمَا إِنْ تَسَاوَيَا فَالرَّدُّ، وَإِنْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا عُمِلَ بِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّمَا نَفَى أَبُو


(١) كذا في الأصلين ولعله " المبدوء به"
(٢) في حكاية الإتفاق نظر، فقد حكى المؤلف في النخبة وشرحها والوراق في الأفية اختلاف في ذلك