للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَرِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي الْخَطَّابِ غَيْرِ مَنْسُوبٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَجَابِرٍ وَجَدِّ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرُّ صَاحِبُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا.

قَوْلُهُ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَثْبَتَ الْجِهَةَ، وَقَالَ: هِيَ جِهَةُ الْعُلُوِّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ (١)؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّحَيُّزِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى النُّزُولِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَهُمُ الْمُشَبِّهَةُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ صِحَّةَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ جُمْلَةً، وَهُمُ الْخَوَارِجُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَهُوَ مُكَابَرَةٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ أَوَّلُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا مَا فِي الْحَدِيثِ، إِمَّا جَهْلًا، وَإِمَّا عِنَادًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى مَا وَرَدَ مُؤْمِنًا بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ مُنَزِّهًا اللَّهَ تَعَالَى عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ، وَهُمْ جُمْهُورُ السَّلَفِ، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالسُّفْيَانَيْنِ، وَالْحَمَّادَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ، مُسْتَعْمَلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْرَطَ فِي التَّأْوِيلِ، حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّحْرِيفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا يَكُونُ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ بَعِيدًا مَهْجُورًا، فَأَوَّلَ فِي بَعْضٍ، وَفَوَّضَ فِي بَعْضٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَسْلَمُهَا الْإِيمَانُ بِلَا كَيْفٍ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الْمُرَادِ إِلَّا أَنْ يَرِدَ ذَلِكَ عَنِ الصَّادِقِ، فَيُصَارُ إِلَيْهِ. مِنَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ الْمُعَيَّنَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَحِينَئِذٍ التَّفْوِيضُ أَسْلَمُ.

وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حُكِيَ عَنِ الْمُبْتَدِعَةِ رَدُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَعَنِ السَّلَفِ إِمْرَارُهَا، وَعَنْ قَوْمٍ تَأْوِيلُهَا، وَبِهِ أَقُولُ (٢)، فَأَمَّا قَوْلُهُ: يَنْزِلُ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَفْعَالِهِ لَا إِلَى ذَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِهِ الَّذِي يَنْزِلُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالنُّزُولُ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ يَكُونُ فِي الْمَعَانِي، فَإِنْ حَمَلْتَهُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْحِسِّيِّ فَتِلْكَ صِفَةُ الْمَلَكِ الْمَبْعُوثِ بِذَلِكَ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ فَعَلَ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ نُزُولًا عَنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ، فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ صَحِيحَةٌ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِأَنَّ الْمَعْنَى يَنْزِلُ أَمْرُهُ أَوِ الْمَلَكُ بِأَمْرِهِ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ بِمَعْنَى التَّلَطُّفِ بِالدَّاعِينَ وَالْإِجَابَةِ لَهُمْ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ حَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ضَبَطَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: يُنْزِلُ مَلَكًا، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ، حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ. الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: يُنَادِي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ. الْحَدِيثَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةِ رِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ: يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ:


(١) مراده بالجمهور جمهور أهل الكلام، وأما أهل السنة -وهم الصحابة Object ومن تبعهم بإحسان- فإنهم يثبتون لله الجهة، وهي جهة العلو، ويؤمنون بأنه سبحانه فوق العرش بلا تمثيل ولا تكييف. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر؛ فتنبه واحذر. والله أعلم.
(٢) هذا خطأ ظاهر مصادم لصريح النصوص الواردة بإثبات النزول، وهكذا ما قاله البيضاوي بعده باطل، والصواب ما قاله السلف الصالح من الإيمان بالنزول وإمرار النصوص كما وردت من إثبات النزول لله سبحانه على الوجه الذي يليق به من غير تكييف ولا تمثيل كسائر صفاته. وهذا هو الطريق الأسلم والأقوم والأعلم والأحكم، فتمسك به، وعض عليه بالنواجذ، واحذر ما خالفه تفز بالسلامة. والله أعلم.