للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا، لِأَنَّهَا لَا فَضْلَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَتَكْفِي صَلَاتُهُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كَانَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بهِ، وَعَنِ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةً: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَةً: إِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ كَرِبَاطٍ لَزِمَ، وَإِلَّا فَلَا، وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ كَمَا سَيَأْتِي، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَصْرِنَا فِي الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ مُنَاظَرَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَصُنِّفَ فِيهَا رَسَائِلُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، قُلْتُ: يُشِيرُ إِلَى مَا رَدَّ بِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، وَمَا انْتَصَرَ بِهِ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي وَغَيْرُهُ لِابْنِ تَيْمِيَةَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي بِلَادِنَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمُ أَلْزَمُوا ابْنَ تَيْمِيَةَ بِتَحْرِيمِ شَدِّ الرَّحْلِ (١) إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ، وَأَنْكَرْنَا صُورَةَ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ ذَلِكَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ طُولٌ، وَهِيَ مِنْ أَبْشَعِ الْمَسَائِلِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى دَفْعِ مَا ادَّعَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ: زُرْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِأَنَّهُ كَرِهَ اللَّفْظَ أَدَبًا لَا أَصْلَ الزِّيَارَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذِي الْجَلَالِ، وَأنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ بِلَا نِزَاعٍ، وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.

قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَوْلُهُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّرَ عَامًّا فَيَصِيرَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَكَانٍ فِي أَيِّ أَمْرٍ كَانَ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ، أَوْ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ. لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى سَدِّ بَابِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَةً، وَهُوَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ، فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ مَنَعَ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الصَّالِحِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ بُقْعَةٌ لَهَا فَضْلٌ لِذَاتِهَا حَتَّى تُشَدَّ الرِّحَالُ إِلَيْهَا غَيْرَ الْبِلَادِ الثَّلَاثَةِ، وَمُرَادِي بِالْفَضْلِ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ فَلَا تُشَدُّ إِلَيْهَا لِذَاتِهَا، بَلْ لِزِيَارَةٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمُبَاحَاتِ، قَالَ: وَقَدِ الْتَبَسَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَزَعَمَ أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى الزِّيَارَةِ لِمَنْ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ دَاخِلٌ فِي الْمَنْعِ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ، أَوْ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ لَيْسَ إِلَى الْمَكَانِ بَلْ إِلَى مَنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ) بِالْمُوَحَّدَةِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَالْأَغَرُّ هُوَ سَلْمَانُ شَيْخُ الزُّهْرِيِّ الْمُتَقَدِّمُ.

قَوْلُهُ: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ الْمُصَلِّي عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ دُونَ مَا زِيدَ فِيهِ بَعْدَهُ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي مَسْجِدِهِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ هَذَا، بِخِلَافِ مَسْجِدِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَكَّةَ،


(١) هذا اللازم لا بأس به، وقد التزمه الشيخ، وليس في ذلك بشاعة بحمد الله عند من عرف السنة، مواردها ومصادرها، والأحاديث المروية في فضل زيارة قبر النبي كلها ضعيفة بل موضوعة كما حقق ذلك أبو العباس، في منسكه وغيره، ولو صحت لم يكن فيها حجة على جواز شد الرحال إلى زيارة قبره من دون قصد المسجد بل تكون عامة مطلقة، وأحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة يخصها ويقيدها، والشيخ لم ينكر زيارة قبر النبي من دون شد الرحال، وإنما أنكر شد الرحل من أجلها مجردا عن قصد المسجد. فتنبه وأفهم. والله أعلم.