قُصِرَتْ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ.
وَفِيهِ جَوَازُ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ لِمَنْ أَتَى بِالْمُنَافِي سَهْوًا، قَالَ سَحْنُونٌ: إِنَّمَا يَبْنِي مَنْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، فَيُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَأُلْزِمَ بِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، فَيَمْنَعُهُ مَثَلًا فِي الصُّبْحِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: يَجُوزُ الْبِنَاءُ مُطْلَقًا، قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الطُّولِ، فَحَدَّهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِالْعُرْفِ، وَفِي الْبُوَيْطِيِّ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَدْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي يَقَعُ السَّهْوُ فِيهَا.
وَفِيهِ أَنَّ الْبَانِيَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَأَنَّ السَّلَامَ وَنِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ سَهْوًا لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ سَهْوًا لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ قَبْلَ نَسْخِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ إِمَّا وَهِمَ فِي ذَلِكَ، أَوْ تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ لِذِي الشِّمَالَيْنِ الْمَقْتُولِ بِبَدْرٍ، وَلِذِي الْيَدَيْنِ الَّذِي تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَدْ ثَبَتَ شُهُودُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَشَهِدَهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَإِسْلَامُهُ مُتَأَخِّرٌ أَيْضًا. وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ - بِمُهْمَلَةٍ وَجِيمٍ، مُصَغَّرًا - قِصَّةً أُخْرَى فِي السَّهْوِ، وَوَقَعَ فِيهَا الْكَلَامُ، ثُمَّ الْبِنَاءُ، أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ بِشَهْرَيْنِ، وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ؛ أَيْ إِلَّا إِذَا وَقَعَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، فَلَا يُعَارِضُ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي الْكَلَامِ الْعَمْدِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ هَذَا.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ فِي حَدِيثِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ.؛ أَيْ إِثْمُهُمَا، وَحُكْمُهُمَا خِلَافًا لِمَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْإِثْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَلَامِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ﷺ لَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا نَاسِيًا، وَأَمَّا قَوْلُ ذِي الْيَدَيْنِ لَهُ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ.، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ لَهُ: صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ، فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا مُعْتَقِدِينَ النَّسْخَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِيهِ فَتَكَلَّمُوا ظَنًّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي صَلَاةٍ، كَذَا قِيلَ، وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُمْ كَلَّمُوهُ بَعْدَ قَوْلِهِ ﷺ: لَمْ تُقْصَرْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا، وَإِنَّمَا أَوْمَئُوا كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ سَاقَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا، وَهَذَا اعْتَمَدَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: حَمْلُ الْقَوْلِ عَلَى الْإِشَارَةِ مَجَازٌ سَائِغٌ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، فَيَنْبَغي رَدُّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالْقَوْلِ إِلَى هَذِهِ، وَهُوَ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِالنُّطْقِ، وَبَعْضَهُمْ بِالْإِشَارَةِ، لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُ ذِي الْيَدَيْنِ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ، وَيُجَابُ عَنْهُ وَعَنِ الْبَقِيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ تَرْجِيحِ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِأَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ جَوَابًا لِلنَّبِيِّ ﷺ وَجَوَابُهُ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ عَدَمُ قَطْعِ الصَّلَاةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ مُخَاطَبَتُهُ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ حَيٌّ بِقَوْلِهِمْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ. وَلَمْ تَفْسُدِ الصَّلَاةُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: مَا دَامَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَاجِعُ الْمُصَلِّي فَجَائِزٌ لَهُ جَوَابُهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُرَاجَعَةُ، فَلَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِالْجَوَابِ لِقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّهْوِ - وَلَوِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ - خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَيْنِ وَوَرَدَ عَلَى وَفْقِهِ حَدِيثُ ثَوْبَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ، وَحُمِلَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ سَهَا بِأَيِّ سَهْوٍ كَانَ شُرِعَ لَهُ السُّجُودُ؛ أَيْ لَا يَخْتَصُّ بِمَا سَجَدَ فِيهِ الشَّارِعُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: سَجْدَتَا السَّهْوِ تُجْزِئَانِ مِنْ كُلِّ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ.
وَفِيهِ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يُتْرَكُ إِلَّا بِالْيَقِينِ، لِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ كَانَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ فَرْضَهُمُ الْأَرْبَعُ، فَلَمَّا اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى اثْنَتَيْنِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُؤَالَهُ. وَفِيهِ أَنَّ الظَّنَّ قَدْ يَصِيرُ يَقِينًا بِخَبَرِ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ ﷺ رَجَعَ لِخَبَرِ الْجَمَاعَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute