للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْمُؤَلَّفَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ (١) سَوَاءٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي حَالِ الْمَيِّتِ أَوْ لَا. قَالَ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ مَكْفُوفَ الْأَطْرَافِ أَوْ غَيْرَ مَكْفُوفٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَا أَثَرَ لَهُ. قَالَ: وَأَمَّا الضَّبْطُ الثَّالِثُ فَهُوَ لَحْنٌ إِذْ لَا مُوجِبَ لِحَذْفِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ فِيهِ. انْتَهَى.

وَقَدْ جَزَمَ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ، وَأَنَّ الْيَاءَ سَقَطَتْ مِنَ الْكَاتِبِ غَلَطًا، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَالْمُرَادُ طَوِيلًا كَانَ الْقَمِيصُ سَابِغًا أَوْ قَصِيرًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ، كَذَا قَالَ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُفْرِطَ الطُّولِ كَمَا سَيَأْتِي فِي ذِكْرِ السَّبَبِ فِي إِعْطَاءِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ قَمِيصَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ، وَقَدْ أَعْطَاهُ مَعَ ذَلِكَ قَمِيصَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى كَوْنِهِ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ أَوْ لَا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كُفِّنَ فِي غَيْرِهِ، فَلَا تَنْتَهِضُ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ رَشِيدٍ: إِنَّ الْمَكْفُوفَ الْأَطْرَافِ لَا أَثَرَ لَهُ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ، كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ التِّينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّكْفِينَ فِي الْقَمِيصِ لَيْسَ مُمْتَنِعًا، سَوَاءٌ كَانَ مَكْفُوفَ الْأَطْرَافِ أَوْ غَيْرَ مَكْفُوفٍ. أَوِ الْمُرَادُ بِالْكَفِّ تَزْرِيرُهُ، دَفْعًا لِقَوْلِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْقَمِيصَ لَا يَسُوغُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ أَطْرَافُهُ غَيْرَ مَكْفُوفَةٍ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُزَرَّرٍ لِيُشْبِهَ الرِّدَاءَ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، وَإِلَى أَنَّ التَّكْفِينَ فِي غَيْرِ قَمِيصٍ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا يُكْرَهُ التَّكْفِينُ فِي الْقَمِيصِ.

وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ قَمِيصُ الْمَيِّتِ كَقَمِيصِ الْحَيِّ مُكَفَّفًا مُزَرَّرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِي تَفْسِيرِ: (بَرَاءَةٌ)، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيذْكُرُ فِيهِ جَوَابَ الْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِ عُمَرَ: أَلَيْسَ اللَّهُ قَدْ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ مَعَ أَنَّ نُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا﴾ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ، حَيْثُ قَالَ: فَنَزَلَتْ: وَلَا تُصَلِّ. وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ: أَنَّ عُمَرَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ مَنْعَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ لَا مَنْعَ، وَأَنَّ الرَّجَاءَ لَمْ يَنْقَطِعْ بَعْدُ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: أَتَى النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ. فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، وَقَالَ: آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَأَعْطَاهُ؛ أَيْ أَنْعَمَ لَهُ بِذَلِكَ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْعِدَةِ اسْمُ الْعَطِيَّةِ مَجَازًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا.

وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: بَعْدَ مَا دُفِنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ؛ أَيْ دُلِّيَ فِي حُفْرَتِهِ، وَكَان أَهْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ خَشَوْا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْمَشَقَّةَ فِي حُضُورِهِ، فَبَادَرُوا إِلَى تَجْهِيزِهِ قَبْلَ وُصُولِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا وَصَلَ وَجَدَهُمْ قَدْ دَلَّوْهُ فِي حُفْرَتِهِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ إِنْجَازًا لِوَعْدِهِ فِي تَكْفِينِهِ فِي الْقَمِيصِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: أَعْطَاهُ ﷺ أَحَدَ قَمِيصَيْهِ أَوَّلًا، ثُمَّ لَمَّا حَضَرَ أَعْطَاهُ الثَّانِي بِسُؤَالِ وَلَدِهِ. وَفِي الْإِكْلِيلِ لِلْحَاكِمِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقَبْرِ، لِأَنَّ لَفْظَهُ: فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. وَالْوَاوُ لَا تُرَتِّبُ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَقَعَ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ إِكْرَامِهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ تَرْتِيبٍ. وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي إِعْطَاءِ النَّبِيِّ ﷺ قَمِيصَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَبَقِيَّةُ الْقِصَّةِ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ اسْمَ ابْنِهِ الْمَذْكُورِ عَبْدُ اللَّهِ، كَاسْمِ أَبِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ جَوَازَ طَلَبِ آثَارِ أَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهُمْ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ السَّائِلُ غَنِيًّا.


(١) أنظر ما تقدم في ص ١٣٠ وغيرها من منع التبرك بآثار الصالحين سوي النبي ﷺ