قَوْلُهُ: (اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ) أَيْ مَرِضَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ صَدَرَتْ مِنْهُ شَكْوَى، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَرِيضَ يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَرَضٍ لِكُلِّ مَرِيضٍ. وَالِابْنُ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو عُمَيْرٍ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُمَازِحُهُ وَيَقُولُ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ،، بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةَ تَزْوِيجِ أُمِّ سُلَيْمٍ بِأَبِي طَلْحَةَ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ، وَقَالَ فِيهِ: فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا صَبِيحًا، فَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَعَاشَ حَتَّى تَحَرَّكَ فَمَرِضَ، فَحَزِنَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا حَتَّى تَضَعْضَعَ، وَأَبُو طَلْحَةَ يَغْدُو وَيَرُوحُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَرَاحَ رَوْحَةً فَمَاتَ الصَّبِيُّ. فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَسْمِيَةَ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ. أَيْ خَارِجُ الْبَيْتِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فِي أَوَاخِرِ النَّهَارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: كَانَ لِأَبِي طَلْحَةَ وَلَدٌ فَتُوُفِّيَ، فَأَرْسَلَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أَنَسًا يَدْعُو أَبَا طَلْحَةَ، وَأَمَرَتْهُ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ بِوَفَاةِ ابْنِهِ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ صَائِمًا.
قَوْلُهُ: (هَيَّأَتْ شَيْئًا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَيْ أَعَدَّتْ طَعَامًا لِأَبِي طَلْحَةَ وَأَصْلَحَتْهُ، وَقِيلَ: هَيَّأَتْ حَالَهَا وَتَزَيَّنَتْ. قُلْتُ: بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا هَيَّأَتْ أَمْرَ الصَّبِيِّ بِأَنْ غَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ صَرِيحًا، فَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ مَشَايِخِهِ عَنْ ثَابِتٍ: فَهَيَّأَتِ الصَّبِيَّ، وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَتُوُفِّيَ الْغُلَامُ فَهَيَّأَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أَمْرَهُ. وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ: فَهَلَكَ الصَّبِيُّ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فَغَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ وَحَنَّطَتْهُ وَسَجَّتْ عَلَيْهِ ثَوْبًا.
قَوْلُهُ: (وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ) أَيْ جَعَلَتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، وَفِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ فَجَعَلَتْهُ فِي مَخْدَعِهَا.
قَوْلُهُ: (هَدَأَتْ) بِالْهَمْزِ؛ أَيْ سَكَنَتْ وَ (نَفْسُهُ) بِسُكُونِ الْفَاءِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ قَلِقَةً مُنْزَعِجَةً بِعَارِضِ الْمَرَضِ، فَسَكَنَتْ بِالْمَوْتِ، وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّ مُرَادَهَا أَنَّهَا سَكَنَتْ بِالنَّوْمِ لِوُجُودِ الْعَافِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: هَدَأَ نَفَسُهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ؛ أَيْ سَكَنَ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ يَكُونُ نَفَسُهُ عَالِيًا، فَإِذَا زَالَ مَرَضُهُ سَكَنَ، وَكَذَا إِذَا مَاتَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ. وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ: أَمْسَى هَادِئًا. وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: بِخَيْرِ مَا كَانَ. وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ) لَمْ تَجْزِمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ أَنَّ الطِّفْلَ لَا عَذَابَ عَلَيْهِ، فَفَوَّضَتِ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ وُجُودِ رَجَائِهَا بِأَنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: (وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ كَلَامِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ صَادِقَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَرَادَتْ.
قَوْلُهُ: (فَبَاتَ) أَيْ مَعَهَا (فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ) فِيهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، لِأَنَّ الْغُسْلَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَفِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ: فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: ثُمَّ تَعَرَّضَتْ لَهُ، فَأَصَابَ مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ: ثُمَّ تَطَيَّبَتْ. زَادَ جَعْفَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ حَتَّى وَقَعَ بِهَا. وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ فَوَقَعَ بِهَا.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ) زَادَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةَ، عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا أَهْلَ بَيْتٍ عَارِيَةً، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ. فَغَضِبَ وَقَالَ: تَرَكْتِنِي حَتَّى تَلَطَّخْتُ، ثُمَّ أَخْبَرْتِنِي بِابْنِي. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَرَأَيْتَ قَوْمًا أَعَارُوا مَتَاعًا ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِيهِ فَأَخَذُوهُ، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. زَادَ حَمَّادٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ ثَابِتٍ: فَأَبَوْا أَنْ يَرُدُّوهَا، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، إِنَّ الْعَارِيَةَ مُؤَدَّاةٌ إِلَى أَهْلِهَا. ثُمَّ اتَّفَقَا، فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ أَعَارَنَا فُلَانًا ثُمَّ أَخَذَهُ مِنَّا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute