للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضَعًا فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ، وَإِنَّهُ لَيُدَخِّنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا.

قَوْلُهُ: (وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ) أَيْ يُخْرِجُهَا وَيَدْفَعُهَا كَمَا يَدْفَعُ الْإِنْسَانُ مَالَهُ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: يَكِيدُ. قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: أَيْ يَسُوقُ بِهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُقَارِبُ بِهَا الْمَوْتَ. وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ بْنُ سِرَاجٍ: قَدْ يَكُونُ مِنَ الْكَيْدِ، وَهُوَ الْقَيْءُ، يُقَالُ مِنْهُ: كَادَ يَكِيدُ، شَبَّهَ تَقَلُّعَ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (تَذْرِفَانِ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ أَيْ يَجْرِي دَمْعُهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ. فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَالْوَاوُ تَسْتَدْعِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، أَيِ: النَّاسُ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى الْمُصِيبَةِ وَأَنْتَ تَفْعَلُ كَفِعْلِهِمْ؟ كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ لِذَلِكَ مِنْهُ مَعَ عَهْدِهِ مِنْهُ أَنَّهُ يَحُثُّ عَلَى الصَّبْرِ وَيَنْهَى عَنِ الْجَزَعِ، فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ أَيِ الْحَالَةُ الَّتِي شَاهَدْتَهَا مِنِّي هِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ عَلَى الْوَلَدِ لَا مَا تَوَهَّمْتَ مِنَ الْجَزَعِ. انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ نَفْسِهِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ وَزَادَ فِيهِ: إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ: خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ. قَالَ: إِنَّمَا هَذَا رَحْمَةٌ، وَمَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمُ. وَفِي رِوَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ مَكْحُولٍ: إِنَّمَا أَنْهَى النَّاسَ عَنِ النِّيَاحَةِ أَنْ يُنْدَبَ الرَّجُلُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: ثُمَّ أَتْبَعَهَا وَاللَّهِ بِأُخْرَى بِزِيَادَةِ الْقَسَمِ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَتْبَعَ الدَّمْعَةَ الْأُولَى بِدَمْعَةٍ أُخْرَى، وَقِيلَ: أَتْبَعِ الْكَلِمَةَ الْأُولَى الْمُجْمَلَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى مُفَصَّلَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ. وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُرْسَلِ مَكْحُولٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ إِلَخْ) فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي آخِرِهِ: لَوْلَا أَنَّهُ أَمْرُ حَقٍّ وَوَعْدُ صِدْقٍ وَسَبِيلٌ نَأْتِيهِ، وَأنَّ آخِرَنَا سَيَلْحَقُ بِأَوَّلِنَا، لَحَزِنَّا عَلَيْكَ حُزْنًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا. وَنَحْوَهُ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ وَمُرْسَلِ مَكْحُولٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَفَصْلُ رَضَاعِهِ فِي الْجَنَّةِ. وَفِي آخِرِ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: وَقَالَ: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ. وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَذِكْرُ الرَّضَاعِ وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالُ، فَلَفْظُهُ: قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي، وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ، وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ يُكْمِلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ. وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ: إِنَّ لِإِبْرَاهِيمَ لَمُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ.

(فَائِدَةٌ فِي وَقْتِ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ : جَزَمَ الْوَاقِدِيُّ بِأَنَّهُ مَاتَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَاتَ قَبْلَ النَّبِيِّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُفَسِّرُ الْبُكَاءَ الْمُبَاحَ وَالْحُزْنَ الْجَائِزَ، وَهُوَ مَا كَانَ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ سُخْطٍ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ أَبْيَنُ شَيْءٍ وَقَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَقْبِيلِ الْوَلَدِ وَشَمِّهِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الرَّضَاعِ، وَعِيَادَةِ الصَّغِيرِ، وَالْحُضُورِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ، وَرَحْمَةِ الْعِيَالِ، وَجَوَازِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْحُزْنِ وَإِنْ كَانَ الْكِتْمَانُ أَوْلَى، وَفِيهِ وُقُوعُ الْخِطَابِ لِلْغَيْرِ وَإِرَادَةُ غَيْرِهِ بِذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَأْخُوذٌ مِنْ مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ وَلَدَهُ مَعَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَفْهَمُ الْخِطَابَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا صِغَرُهُ، وَالثَّانِي نِزَاعُهُ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرَهُ مِنَ الْحَاضِرِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي نَهْيِهِ السَّابِقِ. وَفِيهِ جَوَازُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِعْلُهُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى تَقْبِيلِ الْمَيِّتِ وَشَمِّهِ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْقِصَّةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا