عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ الزَّكَاةَ إِلَى الْإِمَامِ لِيَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ نَقْلَ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ أَيْضًا، وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ قِصَّةِ مُعَاذٍ: إِنَّهَا اجْتِهَادٌ مِنْهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ مَا يَصْنَعُ، وَقِيلَ: كَانَتْ تِلْكَ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا دَلَالَةَ فِيهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ حَاجَةً لِذَلِكَ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ عَمَلِهِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ: كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى الْجِزْيَةِ اسْمَ الصَّدَقَةِ فَلَعَلَّ هَذَا مِنْهَا، وَتُعُقِّبَ بِقَوْلِهِ: مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، وَمَا كَانَتِ الْجِزْيَةُ حِينَئِذٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ شَعِيرٍ وَلَا ذُرَةٍ إِلَّا مِنَ النَّقْدَيْنِ.
وَقَوْلُهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ أَرَادَ مَعْنَى تَسَلُّطِ السُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُقَلْ: أَهْوَنُ لَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَيْ: أَرْفَقُ بِهِمْ، لِأَنَّ مُؤْنَةَ النَّقْلِ ثَقِيلَةٌ، فَرَأَى الْأَخَفَّ فِي ذَلِكَ خَيْرًا مِنَ الْأَثْقَلِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَأَمَّا خَالِدٌ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَوَّلُهُ: أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِصَدَقَةٍ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ: وَفِي الرِّقَابِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، وَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْعُرُوضِ) أَمَّا الْحَدِيثُ فَطَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَوَّلُهُ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، وَالْخُرْصُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ: الْحَلْقَةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْأُذُنِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَوْصُولًا فِي آخِرِ الْبَابِ لَكِنْ لَفْظُهُ: فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي، وَأَشَارَ أَيُّوبُ إِلَى أُذُنِهِ وَحَلْقِهِ، وَقَدْ وَقَعَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، لِأَنَّ الْخُرْصَ مِنَ الْأُذُنِ وَالسِّخَابِ مِنَ الْحَلْقِ، وَالسِّخَابُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ: الْقِلَادَةُ، وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يَسْتَثْنِ، وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يَخُصَّ كُلٌّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ لِلْبُخَارِيِّ، ذَكَرَهُمَا بَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَدَاءِ الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَصَارِفَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ كَمَصَارِفِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِجَامِعِ مَا فِيهِمَا مِنْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَالْمَصْرُوفُ إِلَيْهِمْ بِجَامِعِ الْفَقْرِ وَالِاحْتِيَاجِ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، وَأَمَّا مِنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ النِّسَاءَ بِالصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ -
وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ - صَارَتْ صَدَقَةً وَاجِبَةً، فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْإِيجَابِ هُنَا لَكَانَ مُقَدَّرًا، وَكَانَتِ الْمُجَازَفَةُ فِيهِ وَقَبُولُ مَا تَيَسَّرَ غَيْرَ جَائِزٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ: تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ يَصْلُحُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ وَاجِبِهَا وَنَفْلِهَا، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ عَيْنًا وَعَرْضًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: وَلَوْ لَمْ تَجِدْنَ إِلَّا ذَلِكَ، وَمَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ لِلْعَرْضِ قَوْلُهُ: وَسِخَابُهَا، لِأَنَّهُ قِلَادَةٌ تُتَّخَذُ مِنْ مِسْكٍ وَقَرَنْفُلٍ وَنَحْوِهُمَا تُجْعَلُ فِي الْعُنُقِ، وَالْبُخَارِيُّ فِيمَا عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ طَرِيقَتِهِ يَتَمَسَّكُ بِالْمُطْلَقَاتِ تَمَسُّكَ غَيْرِهِ بِالْعُمُومَاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الصَّدَقَاتِ، وَسَيَأْتِي مُعْظَمُهُ فِي بَابِ زَكَاةِ الْغَنَمِ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَبُولُ مَا هُوَ أَنْفَسُ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ وَإِعْطَاؤُهُ التَّفَاوُتَ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ الْجِنْسِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، لَكِنْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَانَ كَذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْقِيمَةِ، فَكَانَ الْعَرْضُ (١) يَزِيدُ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، فَلَمَّا قَدَّرَ الشَّارِعُ التَّفَاوُتَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ فِي
(١) كذا في النسخ، ولعله"فإن العرض"
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute