قَوْلُهُ: (بَابٌ: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا) أَيْ: فَهُوَ مَذْمُومٌ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَصْرَحُ فِي مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ، وَإِنَّمَا آثَرَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُتَرْجِمَ بِالْأَخْفَى، أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ النَّهْيُ عَنِ الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ كَالْأُغْلُوطَاتِ، أَوِ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُعنِي، أَوْ عَمَّا لَمْ يَقَعْ مِمَّا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ، قَالَ: وَأَشَارَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى حَدِيثٍ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَفِيهِ: وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ. انْتَهَى.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا هُوَ مُطَابِقٌ لِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، فَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ أَوْلَى، وَلَفَظُهُ: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، الْحَدِيثَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْأَلُ لِيَجْمَعَ الْكَثِيرَ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ الْآتِيَةِ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (مُزْعَةُ لَحْمٍ) مُزْعَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَسُكُونُ الزَّايِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَيْ: قِطْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزَّايِ، وَالَّذِي أَحْفَظُهُ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ الضَّمُّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْتِي سَاقِطًا لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا جَاهَ، أَوْ يُعَذَّبُ فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَسْقُطَ لَحْمُهُ لِمُشَاكَلَةِ الْعُقُوبَةِ فِي مَوَاضِعِ الْجِنَايَةِ مِنَ الْأَعْضَاءِ لِكَوْنِهِ أَذَلَّ وَجْهَهُ بِالسُّؤَالِ، أَوْ أَنَّهُ يُبْعَثُ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ كُلُّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ شِعَارُهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ. انْتَهَى.
وَالْأَوَّلُ صَرْفٌ لِلْحَدِيثِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَقَدْ يُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَسْأَلُ وَهُوَ غَنِيٌّ حَتَّى يَخْلُقَ وَجْهَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَجْهٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِنَ الْحُسْنِ شَيْءٌ، لِأَنَّ حُسْنَ الْوَجْهِ هُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ اللَّحْمِ. وَمَالَ الْمُهَلَّبُ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِلَى أَنَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا جَاءَ لَا لَحْمَ بِوَجْهِهِ كَانَتْ أَذِيَّةُ الشَّمْسِ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ سَأَلَ تَكَثُّرًا وَهُوَ غَنِيٌّ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَأَمَّا مَنْ سَأَلَ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فَذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ فَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ هَذَا الطَّرَفِ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: لَفْظُ الْحَدِيثِ دَالٌّ عَلَى ذَمِّ تَكْثِيرِ السُّؤَالِ، وَالتَّرْجَمَةُ لِمَنْ سَأَلَ تَكَثُّرًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَشْهَدُ بِهِ الْقَوَاعِدُ هُوَ السَّائِلَ عَنْ غِنًى وَأَنَّ سُؤَالَ ذِي الْحَاجَةِ مُبَاحٌ، نَزَّلَ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ لِيُكْثِرَ مَالَهُ.
قوله: (بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى) هَذَا فِيهِ اخْتِصَارٌ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ ذَكَرَ مَنْ يَقْصِدُونَهُ بَيْنَ آدَمَ وَمُوسَى، وَبَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ مَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الشَّرْحِ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ) كَذَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ: ابْنُ صَالِحٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، وَلِهَذَا جَزَمَ خَلَفٌ، وَأَبُو نُعَيْمٍ بِأَنَّهُ ابْنُ صَالِحٍ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْإِيمَانِ لِابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ جَمِيعًا عَنِ اللَّيْثِ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ وَقَدْ رَوَاهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ وَحْدَهُ الْبَزَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ مُطَّلِبِ بْنِ شُعَيْبٍ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، فَذَكَروَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ: فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. وَتَابَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَالِحٍ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنِ اللَّيْثِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (بِحَلْقَةِ الْبَابِ) أَيْ: بَابِ الْجَنَّةِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ عَنِ الْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا، وَهِيَ إِرَاحَةُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ أَهْوَالِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ وَالْفَرَاغُ مِنْ حِسَابِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْجَمْعِ أَهْلُ الْحَشْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute