يَقُولُونَ بِالْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّفْرِقَةِ. وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ مَعَ ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ عُلَيَّةَ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ كَيْسَانَ الْأَصَمَّ قَالَا: إِنَّ وُجُوبَهَا نُسِخَ، وَاسْتُدِلَّ لَهُمَا بِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مَجْهُولًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ لِاحْتِمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضٍ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضٍ آخَرَ. وَنَقَلَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَابْنِ اللَّبَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: فَرَضَ. فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى قَدَّرَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هُوَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، لَكِنْ نُقِلَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ إِلَى الْوُجُوبِ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ تَسْمِيَتُهَا زَكَاةً، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ.
وَالتَّصْرِيحُ بِالْأَمْرِ بِهَا فِي حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ، وَلِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الزَّكَاةَ، فَبَيَّنَ ﷺ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ وَثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْفَلَاحِ لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ فَيَلْزَمُ وُجُوبُ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ خَرَجَ بِدَلِيلِ عُمُومِ: هُنَّ خَمْسٌ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ) بِالْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَزْنُ جَعْفَرٍ، وَعُمَرُ بْنُ نَافِعٍ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، ثِقَةٌ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقَزَعِ.
قَوْلُهُ: (زَكَاةَ الْفِطْرِ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: مِنْ رَمَضَانَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِهَا غُرُوبُ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: وَقْتُ وُجُوبِهَا طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْفِطْرُ الْحَقِيقِيُّ بِالْأَكْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ: إِنَّ الْخِلَافَ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: الْفِطْرُ مِنْ رَمَضَانَ الْفِطْرُ الْمُعْتَادُ فِي سَائِرِ الشَّهْرِ، فَيَكُونُ الْوُجُوبُ بِالْغُرُوبِ، أَوِ الْفِطْرُ الطَّارِئُ بَعْدُ، فَيَكُونُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ لِهَذَا الْحُكْمِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْفِطْرِ لَا تَدُلُّ عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ، بَلْ تَقْتَضِي إِضَافَةَ هَذِهِ الزَّكَاةِ إِلَى الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَيُطْلَبُ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ.
قَوْلُهُ: (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) انْتَصَبَ صَاعًا عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الطُّرُقُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ نَافِعٍ، فَزَادَ فِيهِ: السُّلْتَ وَالزَّبِيبَ، فَأَمَّا السُّلْتُ فَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ: نَوْعٌ مِنَ الشَّعِيرِ، وَأَمَّا الزَّبِيبُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهِ بِالْوَهْمِ، وَسَنَذْكُرُ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ) ظَاهِرُهُ إِخْرَاجُ الْعَبْدِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا دَاوُدُ فَقَالَ: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُمَكِّنَ الْعَبْدَ مِنَ الِاكْتِسَابِ لَهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ وَالنَّاسُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ عِنْدِ الْبُخَارِيِّ قَرِيبًا بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ،، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا عَلَى السَّيِّدِ، وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute