وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ. فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ. وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ. وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِي. وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ أَيْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ، وَذَلِكَ فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِيهَا: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: (ذَلِكَ). وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ؛ فَقَالَ نَافِعٌ وَالْأَعْرَجُ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَرَجَّحَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَطَائِفَةٌ: هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمَوَاقِيتِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: مَنْ كَانَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا سِوَى أَهْلِ الْمَنَاهِلِ كَعُسْفَانَ، وَسِوَى أَهْلِ مِنًى وَعَرَفَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ الْمُطَرِّزُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، لَكِنَّهُ قَالَ: عُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ بَدَلَ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، وَكِلَاهُمَا بَصْرِيٌّ، وَلَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، لَكِنَّ عُثْمَانَ بْنَ غِيَاثٍ ثِقَةٌ وَعُثْمَانَ بْنَ سَعْدٍ ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ شَيْخَهُ الْقَاسِمَ وَهِمَ فِي قَوْلِهِ: عُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيَّ ذَكَرَ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ وَجَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي كَامِلٍ كَمَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: فَأَظُنُّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَهُ عَنْ مُسْلِمٍ، لِأَنَّنِي لَمْ أَجِدْهُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، كَذَا قَالَ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَخَذَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، فَإِنَّهُ أَحَدُ مَشَايِخِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَدْرَكَهُ وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِهِ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ ذِكْرًا فِي كِتَابِهِ غَيْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ اسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ، وَالْبَرَّاءُ بِالتَّشْدِيدِ نِسْبَةٌ لَهُ إِلَى بَرْيِ السِّهَامِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ)؛ أَيْ قُرْبَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَرِفَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً) الْخِطَابُ بِذَلِكَ لِمَنْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، كَمَا تَقَدَّمَ وَاضِحًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ.
قَوْلُهُ: (طُفْنَا) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: فَطُفْنَا بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ بِالْحَمْلِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوْ هُوَ جَوَابُ لِمَا، وَقَالَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (وَنَسَكْنَا الْمَنَاسِكَ)؛ أَيْ مِنَ الْوُقُوفِ وَالْمَبِيتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ) الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ بَالِغًا.
قَوْلُهُ: (عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ)؛ أَيْ بَعْدَ الظُّهْرِ ثَامِنَ ذِي الْحِجَّةِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ اسْتُحِبَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ يَخْتَصُّ اسْتِحْبَابُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ بِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ.
قَوْلُهُ: (فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا) لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَقَدْ بِالْوَاوِ. وَمِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ هُنَا إِلَى أَوَّلِهِ مَرْفُوعٌ.
قَوْلُهُ: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ مَوْقُوفًا أَنَّ آخِرَهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى؛ أَيِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَأَخَذَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
قَوْلُهُ: (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ) كَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتْي فِي بَابِ مَنْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يُحِلَّ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ مَعْنَاهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ مَرَّةً بِالْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَمَعْنَى الرُّجُوعِ التَّوَجُّهُ مِنْ مَكَّةَ