كَانُوا مَظْلُومِينَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ دُورٍ لَيْسَتْ بِمِلْكٍ لَهُمْ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتِ الدُّورُ الَّتِي بَاعَهَا عَقِيلٌ لَا تُمَلَّكُ لَكَانَ جَعْفَرُ، وَعَلِيٌّ أَوْلَى بِهَا إِذْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ دُونَهُ. وَسَيَأْتِي فِي الْبُيُوعِ أَثَرُ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ. وَلَا يُعَارِضُ مَا جَاءَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ تُغْلَقَ دُورُ مَكَّةَ فِي زَمَنِ الْحَاجِّ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا، لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِكَرَاهة الْكِرَاءِ رِفْقًا بِالْوُفُودِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ وَآخَرُونَ. وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَسْجِدُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النُّسُكُ وَالصَّلَاةُ لَا سَائِرَ دُورِ مَكَّةَ.
وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ مُنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا لِعِظَمِ حُرْمَتِهَا أَوْ أُقِرَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ؟ وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ الِاخْتِلَافُ فِي بَيْعِ دُورِهَا وَالْكِرَاءُ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَخَالَفَتْ حُكْمَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ نَاشِئًا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ هُنَا: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، هَلْ هُوَ الْحَرَمُ كُلُّهُ أَوْ مَكَانُ الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: سَوَاءً فِي الْأَمْنِ وَالِاحْتِرَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَأَنَّ اسْمَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ لَمَا جَازَ حَفْرُ بِئْرٍ وَلَا قَبْرٍ وَلَا التَّغَوُّطُ وَلَا الْبَوْلُ وَلَا إِلْقَاءُ الْجِيَفِ وَالنَّتْنِ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ عَالِمًا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا كَرِهَ لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ دُخُولَ الْحَرَمِ وَلَا الْجِمَاعَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ الِاعْتِكَافُ فِي دُورِ مَكَّةَ وَحَوَانِيتِهَا، وَلَا يَقُولُ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ، وَالْأَسَانِيدُ بِذَلِكَ كُلُّهَا إِلَيْهِمْ ضَعِيفَةٌ، وَسَنَذْكُرُ فِي بَابِ فَتْحِ مَكَّةَ مِنَ الْمَغَازِي الرَّاجِحَ مِنَ الْخِلَافِ فِي فَتْحِهَا صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (الْبَادِي: الطَّارِئُ) هُوَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الْبَادِي الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَدْوِ، وَكَذَا مَنْ كَانَ ظَاهِرَ الْبَلَدِ فَهُوَ بَادٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْمُقِيمَ وَالطَّارِئَ سِيَّانِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ قَالَ: سَوَاءً فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ.
قَوْلُهُ: (مَعْكُوفًا: مَحْبُوسًا) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي آيَةِ الْفَتْحِ، وَلَكِنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِهَا هُنَا قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْعَاكِفُ، وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَاكِفِ: الْمُقِيمُ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَنْتَ عَاكِفٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ حَرْمَلَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ.
قَوْلُهُ: (أَيْنَ تَنْزِلُ، فِي دَارِكِ) حَذَفَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي دَارِكَ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالطَّحَاوِيِّ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِلَفْظِ: أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَصْبَغَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ فَكَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَهُ أَوَّلًا عَنْ مَكَانِ نُزُولِهِ ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي دَارِهِ فَاسْتَفْهَمَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ، وَيَزِيدُهُ وُضُوحًا رِوَايَةُ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute