ثُمَّ لَمَّا ذُكِّرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَمْسَكَ، وَإِنَّمَا تَرَكَا ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ مَا جُعِلَ فِي الْكَعْبَةِ وَسُبِّلَ لَهَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَوْقَافِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْإِسْلَامِ وَتَرْهِيبُ الْعَدُوِّ.
قُلْتُ: أَمَّا التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَهُ ﷺ لِذَلِكَ رِعَايَةً لِقُلُوبِ قُرَيْشٍ كَمَا تَرَكَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ وَلَفْظُهُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، الْحَدِيثَ. فَهَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَحَكَى الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ أَنَّهُ ﷺ وَجَدَ فِيهَا يَوْمَ الْفَتْحِ سِتِّينَ أُوقِيَّةً، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اسْتَعَنْتَ بِهَا عَلَى حَرْبِكَ فَلَمْ يُحَرِّكْهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْفَاقُهُ جَائِزٌ كَمَا جَازَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ بِنَاؤُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ لِزَوَالِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ، وَلَوْلَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
لَأَمْكَنَ أَنْ يُحْمَلَ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَيَرْجِعَ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ التَّحْبِيسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ عِمَارَةَ الْكَعْبَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاسْتَدَلَّ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ قَنَادِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْكَعْبَةِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ عُمْدَةٌ فِي مَالِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَيْهَا أَوْ يُنْذَرُ لَهَا، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْكَعْبَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَعْلِيقُ قَنَادِيلِهَا فِيهَا، حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي ذَلِكَ: أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ تَعْظِيمًا كَمَا فِي الْمُصْحَفِ، وَالْآخَرُ الْمَنْعُ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ، فَهَذَا مُشْكِلٌ، لِأَنَّ لِلْكَعْبَةِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ بِدَلِيلِ تَجْوِيزِ سَتْرِهَا بِالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَفِي جَوَازِ سَتْرِ الْمَسَاجِدِ بِذَلِكَ خِلَافٌ. ثُمَّ تُمُسِّكَ لِلْجَوَازِ بِمَا وَقَعَ فِي أَيَّامِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ تَذْهِيبِهِ سُقُوفَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، قَالَ: وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَا أَزَالَهُ فِي خِلَافَتِهِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِلْجَوَازِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَانِي الْمُعَدَّةِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا، قَالَ: وَلَيْسَ فِي تَحْلِيَةِ الْمَسَاجِدِ بِالْقَنَادِيلِ الذَّهَبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ بِالذَّهَبِ فَقَدْ أَحْسَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الذَّهَبِ إِلَّا تَحْرِيمُهُ عَلَى الْأُمَّةِ فِيمَا يُنْسَبُ لِلذَّهَبِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحِلِّ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْإِسْرَافِ.
انْتَهَى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ تَجْوِيزَ سَتْرِ الْكَعْبَةِ بِالدِّيبَاجِ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا التَّحْلِيَةُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ فِعْلِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْوَلِيدُ لَا حُجَّةَ فِي فِعْلِهِ، وَتَرْكُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّكِيرَ أَوِ الْإِزَالَةَ يَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ، فَلَعَلَّهُ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْكَارِ خَوْفًا مِنْ سَطْوَةِ الْوَلِيدِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُزِلْهَا لِأَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْوَلِيدُ جَعَلَ فِي الْكَعْبَةِ صَفَائِحَ، فَلَعَلَّهُ رَأَى أَنَّ تَرْكَهَا أَوْلَى، لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ، فَكَأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى قَلْعُهُ إِلَى إِزْعَاجِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فَتَرَكَهُ، وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ لَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ لِلْجَوَازِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْحَرَامَ مِنَ الذَّهَبِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. . .
إِلَخْ، هُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَاسْتِعْمَالَ قَنَادِيلِ الذَّهَبِ هُوَ تَعْلِيقُهَا لِلزِّينَةِ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا لِلْإِيقَادِ فَمُمْكِنٌ عَلَى بُعْدٍ، وَتَمَسُّكُهُ بِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ يُشْكِلُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْغَزَالِيَّ قَيَّدَهُ بِمَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْإِسْرَافِ، وَالْقِنْدِيلُ الْوَاحِدُ مِنَ الذَّهَبِ يَكْتُبُ تَحْلِيَةَ عِدَّةِ مَصَاحِفَ، وَقَدْ أَنْكَرَ السُّبْكِيُّ عَلَى الرَّافِعِيِّ تَمَسُّكَهُ فِي الْمَنْعِ بِكَوْنِ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الرَّافِعِيَّ تَمَسَّكَ بِذَلِكَ مَضْمُومًا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَلَمَّا اسْتَعْمَلَ السَّلَفُ الْحَرِيرَ فِي الْكَعْبَةِ دُونَ الذَّهَبِ - مَعَ عِنَايَتِهِمْ بِهَا وَتَعْظِيمِهَا - دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ عِنْدَهُمْ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ، وَالْقَنَادِيلُ مِنَ الْأَوَانِي بِلَا شَكٍّ، وَاسْتِعْمَالُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لِكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ ذِكْرٌ، يَعْنِي فَلَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute