الثَّوْرِيُّ بَيْنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فَمَنَعَهَا دُونَ الْقَرِيبَةِ، وَتَمَسَّكَ أَحْمَدُ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ تَجِدْ زَوْجًا أَوْ مَحْرَمًا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ تَخْصِيصُ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ سَفَرِ الْفَرِيضَةِ، قَالُوا: وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ إِلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ إِلَّا كَافِرَةً أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَسِيرَةً تَخَلَّصَتْ. وَزَادَ غَيْرُهُ أَوِ امْرَأَةً انْقَطَعَتْ مِنَ الرُّفْقَةِ فَوَجَدَهَا رَجُلٌ مَأْمُونٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْحَبَهَا حَتَّى يُبَلِّغَهَا الرُّفْقَةَ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ عُمُومُهُ مَخْصُوصًا بِالِاتِّفَاقِ فَلْيُخَصَّ مِنْهُ حَجَّةُ الْفَرِيضَةِ. وَأَجَابَ صَاحِبُ الْمُغْنِي بِأَنَّهُ سَفَرُ الضَّرُورَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ، وَلِأَنَّهَا تَدْفَعُ ضَرَرًا مُتَيَقَّنًا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ وَلَا كَذَلِكَ السَّفَرِ لِلْحَجِّ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ: لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ فَنَصَّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ الْحَجِّ، فَكَيْفَ يُخَصُّ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَسْفَارِ؟ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ أَوِ النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ، وَفِي قَوْلٍ: تَكْفِي امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ثِقَةٌ. وَفِي قَوْلٍ نَقَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ وَصَحَّحَهُ فِي الْمُهَذَّبِ: تُسَافِرُ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَاجِبِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.
وَأَغْرَبَ الْقَفَّالُ فَطَرَدَهُ فِي الْأَسْفَارِ كُلِّهَا، وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ. قُلْتُ: وَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى نَفْيِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ آنِفًا. وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْمَحْرَمُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، أَوْ شَرْطٌ فِي التَّمَكُّنِ فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِقْرَارَ فِي الذِّمَّةِ؟ وَعِبَارَةُ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ مِنْهُمْ: الشَّرَائِطُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْحَجُّ عَلَى الرَّجُلِ يَجِبُ بِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُؤَدِّيَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ إِذَا أُمِنَ الطَّرِيقُ أَوَّلُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، لِاتِّفَاقِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَنِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ نَكِيرِ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِنَّ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا أَبَاهُ مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، لَا مِنْ جِهَةِ تَوَقُّفِ السَّفَرِ عَلَى الْمَحْرَمِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ الْحَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَقِبَ الْآخَرِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النِّسَاءَ كُلَّهُنَّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ أَنَّهُ خَصَّهُ بِغَيْرِ الْعَجُوزِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنَ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي شُهُودِ الْمَرْأَةِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي قَالَهُ الْبَاجِيُّ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى، يَعْنِي: مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَمْرِ الْأَغْلَبِ. وَتَعَقَّبُوهُ بِأَنَّ لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةً، وَالْمُتَعَقِّبُ رَاعَى الْأَمْرَ النَّادِرَ وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ. قَالَ: وَالْمُتَعَقِّبُ عَلَى الْبَاجِيِّ يَرَى جَوَازَ سَفَرِ الْمَرْأَةِ فِي الْأَمْنِ وَحْدَهَا فَقَدْ نَظَرَ أَيْضًا إِلَى الْمَعْنَى، يَعْنِي: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْبَاجِيِّ، وَأَشَ رَ بِذَلِكَ إِلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ، وَقَدِ احْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مَرْفُوعًا: يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا زَوْجَ مَعَهَا الْحَدِيثَ. وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَجُودِ ذَلِكَ لَا عَلَى جَوَازِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ وَرَفْعِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ.
وَمِنَ الْمُسْتَظْرَفِ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمَحْرَمَ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي، وَمِنْ مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُهُ أَنَّهُ حَجَّ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِهَذَا قَوْلَ هَذَا وَبِالْعَكْسِ. وَأَمَّا مَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي بَيَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَلَا مَنْعِ بَيْعِهِنَّ، خِلَافًا لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ يَكُونُ مُحَرَّمًا وَلَا جَائِزًا. انْتَهَى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ الْقَرِينَةَ الْمَذْكُورَةَ تُقَوِّي الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَامَّيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ عَامٌّ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute