اللَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ؛ لِأَنَّهُ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْفَمِ، فَيُمْكِنُ الذَّاكِرُ أَنْ يَقُولَهَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلَا يَشْعُرُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ. ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَنِّي أَنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ كَشَفَتْ مَقَادِيرَ ثَوَابِهَا لِلنَّاسِ، وَأَنَّهَا تُضَاعَفُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا السِّيَاقِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، يَعْنِي: رِوَايَةَ الْمُوَطَّأِ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ حَيْثُ قَالَ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ - قَالَ اللَّهُ - إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَيْ: أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاءً كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمِقْدَارِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ انْتَهَى. وَالصَّابِرُونَ الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ.
قُلْتُ: وَسَبَقَ إِلَى هَذَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ فَقَالَ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الصَّبْرُ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ يُصَبِّرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ انْتَهَى. وَيَشْهَدُ رِوَايَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عِنْدَ سَمَوَيْهِ: إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا فِيهِ وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَدِّهِ زَيْدٍ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِينَار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: الْأَعْمَالُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعٌ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَعَمَلٌ لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَالصِّيَامُ، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْحُسْنِ، قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ نَصٌّ فِي إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ، فَبَعُدَ هَذَا الْجَوَابُ بَلْ بَطَلَ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ بُطْلَانُهُ، بَلِ الْمُرَادُ بِمَا أَوْرَدَهُ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يُكْتَبُ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَّا مِقْدَارُ ثَوَابِ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْعُرْفُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَا أَجْزِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قَالَ أَنَا أَتَوَلَّى الْإِعْطَاءَ بِنَفْسِي كَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ وَتَفْخِيمِهِ.
ثَالِثُهَا مَعْنَى قَوْلِهِ: الصَّوْمُ لِي أَيْ: أنَّهُ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ إِلَيَّ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: كَفَى بِقَوْلِهِ: الصَّوْمُ لِي فَضْلًا لِلصِّيَامِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ. رَابِعُهَا: الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبُيُوتُ كُلُّهَا لِلَّهِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّخْصِيصُ فِي مَوْضِعِ التَّعْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ. خَامِسُهَا: أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ ﷻ فَلَمَّا تَقَرَّبَ الصَّائِمُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُنَاسِبَةٌ لِأَحْوَالِهِمْ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الصَّائِمَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِأَمْرٍ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي.
سَادِسُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ. سَابِعُهَا: أَنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، هَكَذَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَظِّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ: الْمَعْنَى لَيْسَ لِنَفْسِ الصَّائِمِ فِيهِ حَظٌّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ حَظًّا لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِعِبَادَتِهِ. ثَامِنُهَا: سَبَبُ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الصِّيَامَ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِمَا يَقَعُ مِنْ عُبَّادِ النُّجُومِ وَأَصْحَابُ الْهَيَاكِلِ وَالِاسْتِخْدَامَاتِ، فَإِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ لَهَا بِالصِّيَامِ، وَأُجِيبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute