لِاعْتِقَادِهِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ نَاسِخًا لِخَبَرِ غَيْرِهِمَا. وَقَدْ بَقِيَ عَلَى مَقَالَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ كَمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ. وَأَمَّا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: صَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا أَوْ كَالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ مِنَ الْآخِذِينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ تَعَمَّدَ الْجَنَابَةَ وَبَيْنَ مَنِ احْتَلَمَ، كَمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمُهَزِّمِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتِمُّ صَوْمَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَقْضِيهِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. قُلْتُ: وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَطَاءً عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: اخْتَلَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ فَأَرَى أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيَقْضِيَ اهـ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ رُجُوعُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ صَرِيحًا فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ.
وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ إِيجَابَ الْقَضَاءِ أَيْضًا، وَالَّذِي نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ اسْتِحْبَابُهُ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ وَعَنِ النَّخَعِيِّ إِيجَابَ الْقَضَاءِ فِي الْفَرْضِ وَالْإِجْزَاءَ فِي التَّطَوُّعِ، وَوَقَعَ لِابْنِ بَطَّالٍ، وَابْنِ التِّينِ، وَالنَّوَوِيِّ، وَالْفَاكِهِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُغَايِرَاتٌ فِي نِسْبَتِهَا لِقَائِلِهَا، وَالْمُعْتَمَدُ مَا حَرَّرْتُهُ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ كُلَّهُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْجُنُبِ، وَأَمَّا الْمُحْتَلِمُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَهَذَا النَّقْلُ مُعْتَرَضٌ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ احْتَلَمَ لَيْلًا فِي رَمَضَانَ، فَاسْتَيْقَظَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ ال فَجْرُ ثُمَّ نَامَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ: فَاسْتَفْتَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَفْطِرْ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنِ احْتَلَمَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ وَاقَعَ أَهْلَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ فَلَا يَصُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ. وَحَمَلَ الْقَائِلُونَ بِفَسَادِ صِيَامِ الْجُنُبِ حَدِيثَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ آخَرُونَ: يَكُونُ حُكْمُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى مَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ وَحُكْمُ النَّاسِ عَلَى مَا حَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَبِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهَا، وَتَرْجَمَ بِذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَكُنِ الْمُصْطَفَى مَخْصُوصًا بِهِ ثُمَّ أَوْرَدَ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَسْتَفْتِيهِ وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ - أَيْ: صَلَاةُ الصُّبْحِ - وَأَنَا جُنُبٌ، أَفَأَصُومُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ. فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي.
وَذَكَرَ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ تَوَهَّمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ غَلِطَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَغْلَطْ بَلْ أَحَالَ عَلَى رِوَايَةِ صَادِقٍ، إِلَّا أَنَّ الْخَبَرَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ فَرْضِ الصِّيَامِ كَانَ مَنَعَ فِي لَيْلِ الصَّوْمِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النَّوْمِ قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْفَضْلِ كَانَ حِينَئِذٍ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَكَانَ لِلْمُجَامِعِ أَنْ يَسْتَمِرَّ إِلَى طُلُوعِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقَعَ اغْتِسَالُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ الْفَضْلِ وَلَمْ يَبْلُغِ الْفَضْلَ وَلَا أَبَا هُرَيْرَةَ النَّاسِخُ، فَاسْتَمَرَّ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى الْفُتْيَا بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهُ.
قُلْتُ: وَيُقَوِّيهِ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا الْأَخِيرِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ لِقَوْلِهِ فِيهَا: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ وَأَشَارَ إِلَى آيَةِ الْفَتْحِ وَهِيَ إِنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَابْتِدَاءُ فَرْضِ الصِّيَامِ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِلَى دَعْوَى النَّسْخِ فِيهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَرَّرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute