عَلَى وَجْهِهَا فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ مِنْ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ، وَرَاوِي التَّخْيِيرِ حَكَى لَفْظَ رَاوِي الْحَدِيثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الرُّوَاةِ إِمَّا لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَيَتَرَجَّحُ التَّرْتِيبُ أَيْضًا بِأَنَّهُ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِهِ مُجْزِئٌ سَوَاءٌ قُلْنَا بِالتَّخْيِيرِ أَوْ لَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ كَالْمُهَلَّبِ، وَالْقُرْطُبِيِّ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَ التَّرْتِيبَ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ وَالتَّخْيِيرَ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَكَسَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: أَوْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّفْسِيرِ وَالتَّقْدِيرِ، أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْعِتْقِ أَوْ يُطْعِمَ إِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ إِتْيَانِ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِالتَّخْيِيرِ أَنَّ الزُّهْرِيَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: فَصَارَتِ الْكَفَّارَةُ إِلَى عِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ أَوِ الْإِطْعَامِ. قَالَ: فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُخْتَصَرًا مُقْتَصَرًا عَلَى مَا ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، قَالَ: وَقَدْ قَصَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهِهَا ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِهِ مِثْلَ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى قَوْلِهِ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ قَالَ: فَصَارَتِ الْكَفَّارَةُ إِلَى عِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَصَارَتْ سُنَّةً: عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ، أَوْ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
قَوْلُهُ: (فَمَكَثَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ كَذَا هُنَا بِالْمِيمِ وَالْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ - وَيَجُوزُ ضَمُّهَا - وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ فَسَكَتَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْمُثَنَّاةِ، وَكَذَا ابْنُ مُسَافِرٍ، وَابْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: اجْلِسْ. فَجَلَسَ.
قَوْلُهُ: (فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ أَمْرِهِ لَهُ بِالْجُلُوسِ انْتِظَارَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيُؤْتَى بِشَيْءٍ يُعِينُهُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَسْقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ بِالْعَجْزِ. وَهَذَا الثَّالِثُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ مَا عَادَتْ عَلَيْهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِهَا بَعْدَ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُ الْمِكْتَلَ.
قَوْلُهُ: (أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَهُوَ جَوَابُ بَيْنَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا، فَقَالَ فِيهَا: إِذْ أُتِيَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَالْآتِي الْمَذْكُورُ لَمْ يُسَمَّ لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَفَّارَاتِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَلِيفًا لِلْأَنْصَارِ أَوْ إِطْلَاقِ الْأَنْصَارِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَإِلَّا فَرِوَايَةُ الصَّحِيحِ أَصَحُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَجَاءَ رَجُلٌ بِصَدَقَتِهِ يَحْمِلُهَا وَفِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِتَمْرٍ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ.
قَوْلُهُ: (بِعَرَقٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ - يَعْنِي: الْقَابِسِيَّ - بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: أَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْإِسْكَانَ؛ لِأَنَّ الَّذِي بِالْإِسْكَانِ هُوَ الْعَظْمُ الَّذِي عَلَيْهِ اللَّحْمُ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ مَعَ الْعَظْمِ فَلْيُنْكَرِ الْفَتْحُ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْمَاءِ الَّذِي يَتَحَلَّبُ مِنَ الْجَسَدِ، نَعَمِ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ الْفَتْحُ، وَمِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْإِسْكَانَ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، بَلْ أَثْبَتَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ كَالْقَزَّازِ.
قَوْلُهُ: (وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا لَامٌ، زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ: الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: سُمِّيَ الْمِكْتَلُ عَرَقًا؛ لِأَنَّهُ يُضَفَّرُ عِرْقَةً عِرْقَةً جَمْعٌ فَالْعَرَقُ جَمْعُ عِرْقَةٍ كَعَلَقٍ وَعِلْقَةٍ، وَالْعِرْقَةُ الضَّفِيرَةُ مِنَ الْخُوصِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ الصَّحَابِيُّ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الزُّهْرِيُّ، وَفِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute