للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَالَ: لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَحْدَهَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ.

قَوْلُهُ: (لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ مَرَّتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: قَالَ عَطَاءٌ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى كَرَاهِيَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: اسْتُدِلَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَوْجُهٍ: نَهْيُهُ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَأَمْرُهُ بِأَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ، وَقَوْلُهُ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَدُعَاؤُهُ عَلَى مَنْ صَامَ الْأَبَدَ. وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا صَامَ النَّفْيُ، أَيْ: مَا صَامَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى﴾ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ أَوْ مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ وَهُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى بِالنَّفْيِ أَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ أَجْرَ الصَّوْمِ لِمُخَالَفَتِهِ، وَلَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ. وَإِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ مُطْلَقًا ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: يَحْرُمُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا يَصُومُ الدَّهْرَ، فَأَتَاهُ فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ وَجَعَلَ يَقُولُ: كُلْ يَا دَهْرِيُّ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي نُعَيْمٍ كَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: لَوْ رَأَى هَذَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَرَجَمُوهُ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ: مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَضِيقُ عَلَيْهِ حَصْرًا لَهُ فِيهَا؛ لِتَشْدِيدِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا وَرَغْبَتِهِ عَنْ سُنَّة نَبِيِّهِ وَاعْتِقَادِهِ أَنَّ غَيْرَ سُنَّتِهِ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فَيَكُونُ حَرَامًا.

وَإِلَى الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا ذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الدُّعَاءَ فَيَا وَيْحَ مَنْ أَصَابَهُ دُعَاءُ النَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْخَبَرَ فَيَا وَيْحَ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَصُمْ، وَإِذَا لَمْ يَصُمْ شَرْعًا لَمْ يُكْتَبْ لَهُ الثَّوَابُ لِوُجُوبِ صِدْقِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْهُ الصَّوْمَ، وَقَدْ نَفَى عَنْهُ الْفَضْلَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْفَضْلَ فِيمَا نَفَاهُ النَّبِيُّ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ صِيَامِ الدَّهْرِ، وَحَمَلُوا أَخْبَارَ النَّهْيِ عَلَى مَنْ صَامَهُ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِيهِ مَا حَرُمَ صَوْمُهُ كَالْعِيدَيْنِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ مَا أُجِرَ وَلَا أَثِمَ، وَمَنْ صَامَ الْأَيَّامَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يُقَالُ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ صَوْمَ الدَّهْرِ إِلَّا الْأَيَّامَ الْمُحَرَّمَةَ يَكُونُ قَدْ فَعَلَ مُسْتَحَبًّا وَحَرَامًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَيَّامَ التَّحْرِيمِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالشَّرْعِ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ شَرْعًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي السُّؤَالِ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَهَا، وَلَا يَصْلُحُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهَا.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى اسْتِحْبَابِ صِيَامِ الدَّهْرِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفَوِّتْ فِيهِ حَقًّا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، قَالَ السُّبْكِيُّ: أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا كَرَاهَةَ صَوْمِ الدَّهْرِ لِمَنْ فَوَّتَ حَقًّا، وَلَمْ يُوَضِّحُوا هَلِ الْمُرَادُ الْحَقُّ الْوَاجِبُ أَوِ الْمَنْدُوبُ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقًّا وَاجِبًا حَرُمَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقًّا مَنْدُوبًا أَوْلَى مِنَ الصِّيَامِ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَتَرْجَمَ ذِكْرُ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا زَجَرَ النَّبِيُّ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ: إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكُ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي مَضَى؛ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ فَحَمَلُوا قَوْلَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: فِي حَقِّكَ فَيُلْتَحَقُ بِهِ مَنْ فِي مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُدْخِلُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مَشَقَّةً أَوْ يُفَوِّتُ حَقًّا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْهَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو، عَنِ السَّرْدِ، فَلَوْ كَانَ السَّرْدُ مُمْتَنِعًا لَبَيَّنَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ