كَانَتْ فِي صُبْحِ الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ، وَوُقُوعَ الْمَطَرِ كَانَ فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ الطُّرُقِ، وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ: وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا أَيْ: مِنَ الصُّبْحِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَيَكُونُ فِي إِضَافَةِ الصُّبْحِ إِلَيْهَا تَجَوُّزٌ. وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ اللَّيْلَةَ تُضَافُ لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَرَدَّ عَلَى مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، والدَّرَاوَرْدِيِّ - يَعْنِي: رِوَايَةَ حَدِيثِ الْبَابِ - مُسْتَقِيمَةٌ، وَرِوَايَةُ مَالِكٍ مُشْكِلَةٌ، وَأَشَارَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِنَحْوٍ مِمَّا ذَكَرْتُهُ.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْإِيضَاحِ، وَأَفَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ أَنَّ الرُّوَاةَ عَنْ مَالِكٍ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ: هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ وَالشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ: يَخْرُجُ فِي صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَالْقَعْنَبِيُّ وَجَمَاعَةٌ عَنْ مَالِكٍ فَقَالُوا: وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ قَالَ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: مَنِ اعْتَكَفَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أَوْ وَسَطَهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنَ اعْتِكَافِهِ، وَمَنِ اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى بَيْتِهِ حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا خِلَافَ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنِ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ، هَلْ يَخْرُجُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ أَوْ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُصْبِحَ؟ قَالَ: وَأَظُنُّ الْوَهْمَ دَخَلَ مِنْ وَقْتِ خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ.
قُلْتُ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِمَا قَرَّرَهُ هُوَ مِنْ بَيَانِ مَحَلِّ الِاخْتِلَافِ. وَقَدْ وَجَّهَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ رِوَايَةَ الْبَابِ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَيْ: حَتَّى إِذَا كَانَ الْمُسْتَقْبَلُ مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِإِدْخَالِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (أُرِيتُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهِيَ مِنَ الرُّؤْيَا، أَيْ: أُعْلِمْتُ بِهَا، أَوْ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَيْ: أَبْصَرْتُهَا، وَإِنَّمَا أُرِيَ عَلَامَتَهَا وَهُوَ السُّجُودُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِلَفْظِ: حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أُنْسِيتُهَا أَوْ نَسِيتُهَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ أَنْسَاهُ غَيْرُهُ إِيَّاهَا أَوْ نَسِيَهَا هُوَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَ نُسِّيتُهَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ، فَهُوَ بِمَعْنَى أُنْسِيتُهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُنْسِيَ عِلْمَ تَعْيِينِهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَسَيَأْتِي سَبَبُ النِّسْيَانِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (أنِّي أَسْجُدُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ أَسْجُدَ.
قَوْلُهُ: (فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَرْجِعْ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمَذْكُورَةِ: مَنِ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ.
قَوْلُهُ: (قَزَعَةٌ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ أَيْ: قِطْعَةٌ مِنْ سَحَابٍ رَقِيقَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَمَطَرَتْ) بِفَتْحَتَيْنِ، فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَاسْتُهِلَّتِ السَّمَاءُ فَأَمْطَرَتْ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ أَيْ: قَطَّرَ الْمَاءُ مِنْ سَقْفِهِ، وَكَانَ عَلَى عَرِيشٍ أَيْ: مِثْلِ الْعَرِيشِ، وَإِلَّا فَالْعَرِيشُ هُوَ نَفْسُ سَقْفِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مُظَلَّلًا بِالْجَرِيدِ وَالْخُوصِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْكَمَ الْبِنَاءِ بِحَيْثُ يَكُن مِنَ الْمَطَرِ الْكَثِيرَ.
قَوْلُهُ: (يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ) وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ لَمْ يُرَدْ بِهِ مَحْضُ الْأَثَرِ وَهُوَ مَا يَبْقَى بَعْدَ إِزَالَةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ مَضَى الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الْفَوَائِدِ تَرْكُ مَسْحِ جَبْهَةِ الْمُصَلِّي، وَالسُّجُودُ عَلَى الْحَائِلِ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْأَثَرِ الْخَفِيفِ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ