اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ قَالَ بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالًا بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي الْبَيْعَ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ وَسَاقَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ لَيَالٍ "
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي) أَيْ: هَلْ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَفِيهِ قِصَّتُهُ مَعَ عُثْمَانَ وَهُوَ بَيِّنٌ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَصَرَّفَ فِي الْبَكْرِ بِنَفْسِ تَمَامِ الْعَقْدِ فَأَسْلَفَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ يَعْنِي: أَنَّ الْهِبَةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا تَمَّتْ بِإِمْضَاءِ الْبَائِعِ وَهُوَ سُكُوتُهُ الْمُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا تَعَسُّفٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَلَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ وَهَبَ مَا فِيهِ لِأَحَدٍ خِيَارٌ وَلَا إِنْكَارَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ مُبَيِّنًا اهـ.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ ﷺ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَارَقَ عُمَرَ بِأَنْ تَقَدَّمَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ مَثَلًا ثُمَّ وَهَبَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُثْبِتُ ذَلِكَ، وَلَا مَا يَنْفِيهِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ الْعَيْنِيَّةِ فِي إِبْطَالِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّرِيحَةُ مِنْ إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى حَدِيثِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ فَحَدِيثُ الْبَيِّعَانِ قَاضٍ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ ﷺ اكْتَفَى بِالْبَيَانِ السَّابِقِ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ كَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا لِخِيَارِ الْبَائِعِ كَمَا فَهِمَهُ الْبُخَارِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الْهِبَةِ وَالْعِتْقِ أَنَّهُ بَيْعٌ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَنْكَرَ وَلَمْ يَرْضَ: فَالَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْبَيْعَ يَتِمُّ بِالْكَلَامِ دُونَ اشْتِرَاطِ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَرَى التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ لَا يُجِيزُونَهُ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ اهـ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِطْلَاقِ، بَلْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَبِيعَاتِ: فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا الطَّعَامَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ قَبْلَ قَبْضِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
ثَانِيهَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الدُّورَ وَالْأَرْضَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
ثَالِثُهَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ.
رَابِعُهَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَاخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِعْتَاقِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِعْتَاقُ، وَيَصِيرُ قَبْضًا سَوَاءٌ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ بِأَنْ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا وَلَمْ يَدْفَعْ أَمْ لَا، وَالْأَصَحُّ فِي الْوَقْفِ أَيْضًا صِحَّتُهُ، وَفِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ حُجَّةٌ لِمُقَابِلِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ وَكِيلًا فِي الْقَبْضِ قَبْلَ الْهِبَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَغَوِيِّ قَالَ: إِذَا أَذِنَ الْمُشْتَرِي لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ كَفَى وَتَمَّ الْبَيْعُ وَحَصَلَتِ الْهِبَةُ بَعْدَهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا اتِّحَادُ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ رَاكِبَ الْبَعِيرِ حِينَئِذٍ، وَقَدِ احْتُجَّ بِهِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْقَبْضَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِالتَّخْلِيَةِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي بَابِ شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالْحُمُرِ إِذَا اشْتَرَى دَابَّةً وَهُوَ عَلَيْهَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا؟ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَكْفِي التَّخْلِيَةُ فِي الدُّورِ وَالْأَرَاضِيِ وَمَا أَشْبَهَهَا دُونَ الْمَنْقُولَاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْزِمِ الْبُخَارِيُّ بِالْحُكْمِ، بَلْ أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ مَوْرِدَ الِاسْتِفْهَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute